تسونامي «الفصل 80» يضرب المشهد السياسي ويعصف بالأحزاب

تسونامي الفصل 80 لم يقف عند تحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي وإنما ضرب الأحزاب في مقتل ودخل بعضها في أزمات هيكلية وتسييرية وهووية وأشرف بعضها على الاندثار
* ارتدادات 25 جويلية بمثابة الزلزال في المشهد وستتواصل التداعيات لتفضي الى فرز جديد وتشكيل محيّن للخارطة تتغير فيها المواقع والأحجام والأدوار بالنسبة الى الفاعلين السياسيين بشكل عام والأحزاب بشكل خاص

******

أحدثت الخطوة التي أقدم عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021 بتفعيل الفصل 80 من الدستور وإعفاء رئيس الحكومة وتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن سكانه، رجّة نفسية إيجابية في مجملها في الشارع التونسي خلال الأسبوع المنقضي، رجّة لم تخف المخاوف ولم تحجب مدى تعطش التونسيين الى ترجمة الأقوال إلى أفعال

وكما صار معلوما، فقد اختلفت القراءات والمواقف مما حصل في المجتمع السياسي وانقسمت الأحزاب بين داعمة ومبرّرة دون قيد أو شرط لما أتاه الرئيس واعتباره تصحيحا للمسار وإنقاذا للبلاد والعباد، وأخرى متحفظة ومتبنية لمقولة «نعم ولكن» في انتظار مزيد انجلاء الغموض واكتمال الصورة، والبقية معارضة ومناوئة إما بحكم فقدان «الغنيمة» أو نتيجة تشبث مشروع بالمرجعيات الفكرية والثوابت الحزبية

والمؤكد اليوم رغم قصر الفترة واختلاف المواقف وتناقض المصالح، أن ارتدادات «منعرج» أو «لحظة» 25 جويلية كانت بمثابة الزلزال في المشهد السياسي وستتواصل التداعيات في المستقبل لتفضي في النهاية الى فرز جديد وتشكيل محيّن للخارطة السياسية تتغير فيها المواقع والأحجام والأدوار بالنسبة الى الفاعلين السياسيين بشكل عام والأحزاب بشكل خاص مع الأخذ بعين الاعتبار موقف رئيس الجمهورية منها وهو مهم للغاية ويجب التوقف عنده

بالنسبة الى المواقع، لن يبقى في الحكم من كان فيه قبل «اللحظة التاريخية» أو «اللحظة الشجاعة» كما وصّفها البعض، فلا نخال أنه سيكون للنهضة دور في ترتيبات المرحلة القادمة، أو أذرعة في الحكومة التي ستحل مكان حكومة هشام المشيشي دون أن ننسى انخرام موازين القوى البرلمانية وتشظي الائتلاف البرلماني أو الحزام السياسي الذي كان قائما فقلب تونس شقّ عصا الطاعة بعدُ وبايع قيس سعيد بعد تحالف مقدّس كان قائما مع الشيخ راشد الغنوشي، وجماعة «الكرامة» الذين كانوا يضعون ساقا هنا وأخرى هناك فهم سينشغلون بملفاتهم القضائية ولن يكون لهم دور في تنظيم المشهدية وقد يحتفظون بدور التشويش على ما سيقع إقراره

ونفس الأمر بالنسبة الى «الحزيبات» الصغيرة التي كانت تساند القصبة فهي الى جانب إسراعها في تأييد «تفعيل الفصل 80»، لا تملك الوزن السياسي الذي يخول لها الفعل في الخطوات القادمة خصوصا وأنها تتحمل في النهاية مسؤولية الوصول الى الهاوية

في المقابل، قد تعود أحزاب كانت في الحكومة وخرجت منها الى القصبة بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك بدعم وإسناد وزراء بعينهم الى جانب الدعم المطلق للرئيس ونتحدث هنا عن حركة الشعب وفي مستوى ثان عن التيار الديمقراطي

كما أن صمود وثبات أحزاب على مواقفها المعارضة لهذا العهد الجديد قد يسهم في تواصل انحسارها والغضب منها أو سيمنحها جرعة اوكسيجين للبروز مجددا في المشهد كقوة مبدئية لا تتأثر بسهولة بالمتغيرات ونتحدث هنا عن حزب العمال على سبيل المثال الذي بقي خارج سرب الدعم بكل أنواعه، المطلق والمشروط، لرئيس الجمهورية

هذه التطورات ستجعلنا أمام خارطة جديدة تتبدّل فيها الأدوار بالنسبة الى من سيبقى صامدا وموجودا من الأحزاب التي تظل رغم كل شيء عنصرا ضروريا في الحياة السياسية والبناء الديمقراطي طالما أننا نتحرك ضمن منطق ونظام ومنظومة الديمقراطية كما أسستها وراكمتها البشرية وخصوصا في المجتمع الغربي

من جهة أخرى، يمكن القول أن تسونامي الفصل 80 إن جاز القول لم يقف عند تحريك المياه الراكدة في المشهد السياسي وإنما ضرب الأحزاب في مقتل ودخل بعضها في أزمات هيكلية وتسييرية وهووية وأشرف بعضها على الاندثار

وبخلاف ما قد يذهب إليه البعض فإنه لم ينج أحد من هذا التسونامي أو على الأقل الأغلبية الساحقة وعلى رأسها حركة النهضة

لقد انتهت النهضة، ذاك التنظيم الذي عرفه التونسيون والعالم قبل 2011 وبعده، داخل الحكم وخارجه، وسنكون في المستقبل أمام نهضة أو ربما نهضات متعددة لا تمت للحقبة السابقة بصلة كبيرة على مستوى الشكل على الاقل لأنها ستحتفظ في تقديرنا بالمرجعيات التي هي أصل المشكلة

لقد أفاض الفصل 80 الكأس داخل النهضة الأمر الذي أعاد الحديث عن عرائض الغضب والاستقالات والقفز من المركب كما فعل القيادي محمد النوري مثلا أو محمد خليل البرعومي فيما «اقترح» محمد القوماني اعتذار الحركة و«شعر» سمير ديلو بالفشل وبالقهرة وبالغلبة وقال علي العريض ان النهضة استوعبت الدرس وكشف أسامة الصغير عن عريضة لـ «تصحيح المسار» طالبت مجلس الشورى بحل المكتب التنفيذي وتحميل القيادات الحالية للتنظيم مسؤولية التقصير

وكما هو معلوم فقد انفجر الخلاف داخل النهضة منذ زمن بعيد وتواترت الاستقالات والعرائض وأمكن «بفضل» الكورونا ترحيل الأزمة وتأجيل المؤتمر الحادي عشر المثير للجدل الى موعد غير محدد ومع ذلك أبى راشد الغنوشي إلا ان يصل بالتنظيم الى التصادم مع الجميع، مع الأتباع، مع رئيس الجمهورية ومع الشارع الذي كان محدّدا في مواقف قرطاج

نفس الأمر حصل مع قلب تونس، الذي سارع بالتنصل من التحالف مع النهضة لكن ذلك لن يجديه في تقديرنا بحكم أن موقف قيس سعيد يكاد يكون غير قابل للتغيير تجاه هذا الحزب أو بصفة أدق تجاه باعثه نبيل القروي 

ومثلما انشطرت كتلة الحزب بعد التحالف مع النهضة في البرلمان واستقالة عدد من النواب ها هي النائبة شيراز الشابي تعلن استقالتها من كتلة الحزب دون تقديم تفاصيل لكنها كتبت في صفحتها الخاصة على الفايسبوك أن : الدساتير تصاغ لترجمة ارادة الشعوب…أعلن استقالتي من كتلة قلب تونس

كذلك الأمر بالنسبة الى أحزاب المعارضة، أو المعارضة التي كانت في الحكم وقد تعود اليه، فقد حصل جدل كبير داخل التيار الديمقراطي واختلاف في صياغة الموقف شفويا في البداية على لسان سامية عبو ثم كتابيا في بيان أول للحزب وبيان ثان للمجلس الوطني للحزب مع حديث عن استقالة أو ربما استقالات أو انسحابات قادمة

حتى الأحزاب التي كانت في المعارضة فقد وصلها التسونامي وبرز تناقض كبير بين الموقف الأولي للأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي مثلا ثم موقف طيف مهم في الحزب وقّع بيانا يتضمن موقفا مغايرا 180 درجة

والأكيد أن تطورات الساعات والايام القادمة لن توقف تأثير التسونامي على المشهدية بل على العكس من ذلك ستغذي التداعيات وتساهم بشكل قوي في إعادة صياغة وترتيب وتأثيث المشهد، وسيحصل الفرز الضروري في كل الحالات وسيدفع «المتسرّعون» الثمن باهظا فيما سيجني «المستشرفون» و«المحترفون» و«الثابتون» بعض المكاسب المحدودة لان اللعبة أو المعركة أكبر من الأحزاب وأكبر حتى من المجتمع المدني الذي تحرك وكان أكثر تأثيرا ليس اليوم فقط ولكن على مرّ التاريخ، لأن اللعبة أعقد بكثير ويتقاطع فيها الداخل بالخارج والخارج بالداخل 

ولا ننسى هنا أيضا أن رئيس الجمهورية الحالي الذي يستمد جماهيريته من مقولة الشعب يريد عرف كيف يحيّد الاحزاب –المنهكة بطبيعتها والمساهمة في ترذيل نفسها- ويؤلب عليها الناس باعتماد كثير من الأسلحة منها «المنصّات والصواريخ» التي يلوّح بها تجاه خصومه ومنها ايضا المتطوعون من الشباب ومن «تنسيقيات» يتساءل المرء إذا لم تكن هي تعبيرة حزبية جديدة قد تكون ضمن موضة وقوالب أحزاب القرن الـ21 الجديدة التي سترسم ملامح العهد والحكم الجديد

بقلم: مراد علالة