بعد مرور أكثر من أربعة عقود من التحرك الحقوقي، بما فيه التحرك النسوي للدفاع عن حقوق المرأة ومناصرة قضاياها، وجب التوقف والتأمل في النتائج التي وصلنا إليها وما لم ننجح في تحقيقه إلى حد الآن
مقالي لا يَدَّعي التطرق لكل الجوانب الشائكة لقضايا المرأة في تونس، بل سأختصره في مشاركة بعض الخواطر التي يمكن أن تُمثل نقطة البداية لحوار مجتمعي بين كل الفاعلين في هذا المجال من رجال ونساء وطنيين، والذين يَهمهم الشأن العام وخاصة منظمات المجتمع المدني، ومراكز البحوث والأكاديميين
حين أفكر في تحرك منظمات المجتمع المدني للدفاع عن المساواة وحقوق المرأة وأقارن ذلك التحرك بتغلغل حركة الإخوان المسلمين منذ أواخر السبعينيات، أرى فجوة عميقة بين الإثنين
لا أعرف لو أن حركات الدفاع عن حقوق المرأة واعية بهذه الفجوة العميقة أم لا، لكنني أتصور أنه لو كانت واعية، أقل شىء يمكن أن تقوم به هذه الحركات هي إعادة النظر في كل تحركاتها، ومبادراتها وبرامجها للتساؤل عن معنى وأسباب هذه الفجوة. وسوف تُمكِّنها إعادة النظر هذه من اقتراح برامج جديدة فعالة للوصول، بالطريقة المثلى إلى كل شرائح المجتمع كي تتجند كلُّها من أجل العمل على سد تلك الفجوة وتحقيق تقدم فعال في تدعيم وترسيخ تلك الحقوق وتحصينها من أي إنتكاسة على أرض الواقع
ولو قمنا بعملية تقييمية للرسائل والشعارات التي تستند عليها المنظمات التي تُعنى بقضايا المرأة، لوجدنا أنها لم تتغير في العقود الثلاث الماضية ولم تنتبه بالقدر الكافي للتغير الساري في المجتمع بين التخفي والظهور، لزرع بذور التعصب والفكر الظلامي تحت قناع « استرجاع هوية الشعب الإسلامية المغيّبةّ من الحكام العملاء للمستعمر والغرب » . فانطلت تلك الخدعة على الكثيرين والكثيرات من بنات وأبناء الوطن، وتواصل الإكتساح في النسيج الإجتماعي بين السر والعلن لسنوات طويلة. والتساؤل المهم وقتها هو: لماذا رسائل الأصولية الدينية تصل وتؤثر بأكثر سهولة من رسائل التقدميين؟ فحتى عندما ثار الشعب على النظام السابق وفرض رحيل رأسه، آملا في عهدٍ تتحقق فيه الكرامة والحرية لجميع المواطنين والمواطنات، والشغل لجميع شاباته وشبابه، إنقضَّت الأصولية الدينية على الفرصة الذهبية التي أتاحتها لها تلك الهبة الشعبية، عازمة على حصد ما زرعته في السنوات السابقة. وهكذا تم لها الأمر بقناع الديمقراطية هذه المرة من أجل : البِرِّ بالمستضعفين
فصدّق الشعب أن أولئك الذين « يخافون الله » سيعم الخير على أيديهم. وسريعا تحركت معاول الهدم تعمل ليلا نهارا، تحت شعار « الإسلام هو الحل »، لتقويض مقومات الدولة الوطنية الحديثة وقيم حقوق الإنسان وفي طليعتها المساواة التامة بين الرجال والنساء. فالإسلام السياسي يروّج إلى أن المسبب الرئيسي لبطالة الرجال، هو خروج المرأة للعمل، و يعطي الحل لتأخر سن الزواج بجواز التعدد، ويفرض في الأحياء الفقيرة على المرأة تغطية رأسها. والأمثلة كثيرة لتغلغل الإسلام السياسي الذي أتى بكل التعلات الواهية والتي يلبسها غطاء الدين حسب تفسيراته. لكن بالمقابل، لم تتفطن المظمات الحقوقية، إلا ما ندر، لضرورة تغيير خطابها والإلتحام بالأوساط الشعبية لتقديم الشروح العلمية والعقلانية لمشكلة البطالة، والإجابات الواقعية الحقيقية لكل المشاكل المجتمعية، والتي تعود في الأصل والأساس إلى منوال تنميةٍ فاسد وحوكمة منحرفة بدَّدت الثروة بدل تنميتها ومنظومة تعليم ضعيفة منفصلة عن متطلبات الإرتقاء بالمجتمع والتفاعل مع المتغيرات العالمية من حولنا. فانتعش مذهب الصدقة من خلال آلاف الجمعيات ذات الظاهر الخيري « التكافلي » والباطن الرامي إلى إذلال الشعب والسيطرة على عقول بناته وأبنائه لحشوها بتلك الأراجيف والخدع، بل وكسب الأنصار والمريدين من بينهم لتحقيق السيطرة الكاملة على جميع مفاصل الدولة. وهو ما تحقق الجزء الأكبر منه على مدى العشر سنوات الحالكة المنقضية
إن من بين ركائز إعادة النظر وعملية التقييم التي أدعو إليها، هي التساؤل عما إذا كانت المساعدة الحقيقية التي تقدمها منظمات المجتمع المدني للنساء مبنية على إحتياجاتهن الحقيقية ؟ فلما كنت شخصيا، كمحامية أقدم الإستشارات القانونية المجانية لسيدات ليس لديهن الإمكانيات المادية، في أواخر التسعينيات في الأحياء الشعبية، لم تكن المنظمات الحقوقية متواجدة لسدِّ هذا الإحتياج الكبير، مثلا. ولم تَعِ المنظمات الحقوقية النسائية بأهمية الوصول لأكثر عدد ممكن من النساء إلا في وقت متأخر. كما أن السيدات العاملات في القطاع الفلاحي لم تتمتعن بأنشطة توعوية إلا نادرا وهذا نفس حال المعينات المنزلية وغيرهن
من الأخطاء الجسيمة التي إرتكبتها هذه المنظمات الحقوقية، ليس فقط في تونس، بل وفي معظم الدول التي هي في طريق النمو، هو الإهتمام بالمرأة فقط وبمشاكلها التنموية بمعزل عن الرجل، كما لو أن كل فريق يعيش في كوكب لوحده. وعملية إقصاء الرجل من كل برامج التوعية، وحلقات النقاش، وبرامج الدعم المالي من قروض ومشاريع صغيرة، وبرامج الدعم النفسي… وغيرها من المبادرات، لم يكن في صالح المرأة. إقصاء الرجل أشعره بالمهانة، وقلة القيمة وردَّة فعله، غير المستَغرَبة، كانت في إنقلابه على المرأة ورفض مبدإ حقها بالتمتع بجميع حقوقها بدون إستثناء، مسنودا في ذلك بالإسلام السياسي من أجل مضاعفة منسوب القمع ضد المرأة والإستهانة بحقوقها، وقد أتانا رجع الصدى مجددا في المدة الأخيرة من تحت قبة البرلمان على لسان بعض ممثليه فيه
وبالتالي وجب الإعتراف أنه لا توجد برامج نسوية بحتة بقدر ما هي برامج من المفروض أن تقدم للمجتمع، رجالا ونساء كي تضمن لها حسن التطبيق، الفعالية والنجاح. فعلا فالرجل أيضا، مثل المرأة محتاج لمن يساعده لتوسيع مساحة وعيه وتنميه قدراته وذكاءه الوجداني، ولو مكَّناه من ذلك لأصبح أحسن حليف ومناصر لقضايا المرأة ومدافع لحقوقها الكونية
وأخيرا، أظن أن قصَّة المطالبة ب »الكوتا » هي من بين المسائل التي أضرت بالمرأة ولم تساعد على تكثيف وجودها في الفضاء السياسي، وذلك للعديد من الأسباب، أذكر من بينها
1) المرأة لا تتمتع بنفس الفرص عموما، لكن في تونس، وبعد الإستقلال، مُنحت المرأة نفس فرص التعلم وبالتالي النجاح وهذا ما يُفسِّر وصول مئات، بل آلاف من التونسيات إلى العديد من الأماكن المرموقة، بفضل إجتهادها ومثابرتها. ولو تمتعت بنفس الفرص في المجال السياسي، لما إحتاجت أن يمنَّ عليها أي شخص بأي « كوتا ». وكان من المفروض أن تواجه المرأة هذا الواقع وتعوِّل على نفسها لفرض تواجدها في الفضاء السياسي أيضا، وأن لا تسمح للأحزاب السياسية أن تستغل وجودها كواجهة لتلميع صورتها
2) فرض « كوتا » معينة في البرلمان، سمح بدخول ممثلات عن الإسلام السياسي اللاتي هنَّ ضد حقوق المرأة. تواجدهن في مكان حساس، مسؤول عن تشريع قوانين البلاد، يمثل خطرا، لأنهن سوف تحاولن مع زملائها من نفس التوجه، فرض التراجع في كل الحقوق التي تحصلت عليها المرأة التونسية. وما مسودة الدستور الأول، إلا خير دليل على مشروعهن الرجعي الذي هو مشروع الإسلام السياسي والأصولية الدينية الذي تم السعي لفرضه بإسم ديمقراطية صندوق متواطىء مع محاولة لحرمان التونسية من حقوقها
3) لم تقع حملات التوعية المستمرة لأهمية فرض مبدأ التناصف، وإنجرَّ عنه ردَّة فعل خفية في لاوعى عدد كبير من الرجال الذين أصبحوا يغارون من المرأة ويحسدونها على ما تحصلت عليه، بطريقة « غير شرعية » بحسب وجهة نظرهم
لكل البراهين التي قدمتها وغيرها، وجب القيام بلقاء يجمع بين كل الفاعلين في المجال الحقوقي عامة وحقوق المرأة والشباب، على وجه الخصوص، من جمعيات ومراكز بحوث وأكاديميين، لإجراء حوار نزيه ومُعمَّق لتقييم الوضع الحالي قصد إيجاد حلول جذرية لتغيير الواقع
وللقيام بذلك، وجب إستعمال أحدث الطرق، والإبتعاد عن رسكلة المنهجيات التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي لا جدوى من إستعمالها لأنها لا تساعد على إيجاد الحلول الجذرية لتقديم أفضل السبل لتغيير الواقع
هذا التحرُّك، بالرغم من تأخره (50) سنة، مقارنة مع بداية تغلغل الإسلام السياسي في أواخر السبعينيات، هو أحسن من عدم القيام به ومواصلة رسكلة منهجيات لا جدوى منها. بل لقد آن الأوان للتوقف عن تقديم إجابات سطحية لتحديات حقيقية وعميقة
ومثلما يقول الفيلسوف أينشتاين : لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس التفكير الذي إستخدمناه عندما أنشأناها
خديجة توفيق معلَّى
صدر هذا المقال في جريدة الصباح