تحت حراسة شخصية مشدّدة لرئيسه راشد الغنوشي، لم يحظ بها حتى قادة المقاومة الفلسطينية خلال العدوان الصهيوني الأخير على أرضهم، عقد مجلس نواب الشعب جلسة عامة يوم الجمعة 21 ماي 2021 تضمن جدول أعمالها حصة صباحية لإجراء حوار مع محافظ البنك المركزي التونسي وأخرى مسائية للحوار مع وزير الإقتصاد والمالية ودعم الإستثمار
ومثلما تعوّدنا على ذلك منذ ابتلانا الله بهم، لم تخل جلسة الجمعة الماضي من خروج «نواب الشعب» عن النص وعن الصف وتحولت ساحة المجلس الى حلبة للتلاسن المعهود وتبادل الاتهامات «الركيكة» صراحة والتي لم تقتصر على الاتهامات الثنائية والجماعية بين الحضور في المكان المغلق وإنما طالت أشخاصا ومؤسسات وهيئات خارج أسوار البرلمان
ومرة أخرى تطاول «نواب» على خيمة التونسيين وأساؤوا لمسؤولين في المنظمة الشغيلة واتهموا الاتحاد العام التونسي للشغل بالتسبب في ما نحن فيه. ليس ذلك فحسب طال التطاول رئيس الدولة ورمز وحدتها نتيجة الخلط بين الدور الرقابي المسؤول الذي يفرض نقد اداء أي جهة في الدولة والتعسف في القيام بهذه الوظيفة لدرجة الاعتداء حتى على الذوق العام بالتلميح والحديث عن صحة رئيس الجمهورية بالشكل الذي تم به ولا ننسى ايضا من زلّ به اللسان فخلط بين ديانة سماوية وال صهيونية ثم اعتذر
على أن الأهم من هذه الحيثيات وهذه الشوائب التي سيهملها التاريخ دون أدنى الشك وينسى فاعلوها ممن أتوا بها، هو ما جاء على لسان محافظ البنك المركزي ووزير الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار
ونمنّي النفس هنا أن يعيد أركان منظومة الحكم في بلادنا ونقصد بذلك ما سُمي بالرئاسات الثلاث أن يعيدوا الاستماع الى كلام المحافظ الذي كان بالفعل محافظا ومتحفّظا وتحدث في إطار مهني جاد ومسؤول وصريح عن حقيقة الاوضاع الراهنة وما فعله البنك وما أتاه هو شخصيا في علاقة بـ«مهمة واشنطن» والعلاقة بصندوق النقد الدولي
أما الوزير فيبدو أنه مصرّ على عدم الإنصات لغير نفسه وملحّ على الذهاب والاستبسال في الدفاع عن خياراته وخيارات الحكومة دون تقديمها وتشريك التونسيين ـ على الأقل من خلال مؤسساتهم السياسية والاجتماعية ـ في بلورتها أو فهمها الأمر الذي سيُيسّر «هضمها» والتعايش معها بقطع النظر عن التكاليف
لن نقف عند التفاصيل ولا عند «الاستراتيجيات» والبرامج فهي مسائل كبرى وموضوعات تقنية متخصصة وجد معقدة نتركها في عهدة الخبراء والمختصين، لكننا مكرهون على التوقف عند صراحة محافظ البنك المركزي والبناء عليها فهو عندما يعبر عن مخاوفه من إمكانية توجّه نسبة التضخم في تونس نحو الارتفاع العام المقبل ويفسّر ذلك بوجود عدة أسباب منها انتعاش الطلب وكذلك توجه أسعار برميل النفط نحو الإرتفاع فهو يحذّر من الآتي ويضع الجميع أمام حقيقة وحجم التحديات التي لا حل لها حسب رأيه سوى التكامل بين السياسات الجبائية والمالية والإقتصادية
وفي باب تبرئة الذمة يحذّر المحافظ من أننا «إذا لم ننتج ولم نصدّر.. نجمو نوصلو ما ناكلوش» ويبشرنا بأن الإصلاحات النقدية المطلوبة من صندوق النقد الدولي تمّ انجازها بصفة استباقية
ما أروعك وما اصدقك ايها المحافظ دون تحفظ، وحبذا لو سار الوزير على نهجك وعندما يقول أنه سيعمل على أن تتجاوز تونس أزمتها الاقتصادية الكبيرة الراهنة وتحسين منظومة الجباية، أن يكون حليما بالتونسيين ويشرح لهم الفروقات والمقاصد الحقيقية لجملة من المفردات «السحرية» من قبيل الترفيع والتعديل في الاسعار والتخفيف والتغيير في الجباية ورفع وترشيد الدعم وتقليص ومراجعة كتلة الأجور واصلاح وانقاذ المؤسسات العمومية وغيرها من عناوين العلاقة بالمؤسسات المالية وعلى راسها صندوق النقد الدولي
هل هذه مجرد «توجهات» ومجرد أفكار للنقاش والتقييم أم هي تعهدات والتزامات وإملاءات؟
كم نحن بحاجة أن نصدقك معالي الوزير حين تقول «نحن لا نقبل الإملاءات» لأنك تضيف دون تحفظ «ونحن مُصرّون على إمضاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي» والحال أنك تعلن أنك ستباشر لاحقا نقاشا مع الصندوق ومع الأحزاب الداعمة للحكومة وتعتبر أن «التوقيع» هو السبيل الوحيد الذي «سيسّهل العمل مع بقية الشركاء الاقتصاديين وخاصة الداعمين الماليين لتونس»..
العجب العجاب الذي يرغمنا على التحفظ على كلام الوزير ولا نخال أنه مقتنع هو نفسه به، هو تشدقه وشكره للحكومات السابقة التي قامت بعديد الأشياء لتوفير الكرامة وتحسين وضعية التونسيين بعد 2011 باعتبارها كانت تلك هي مطالب التونسيين -هكذا رغم أنها حكومات بالجملة فشلت وتهاوت وسقطت بالتفصيل في اسابيع وأشهر- وان : الاقتصاد في تونس كان سنة 2010 خلال فترة حكم بن علي منهارا… ووصل الى حالة يرثى لها
هذا هو القفز على التاريخ بعينه والتعثر في الجغرافيا فالتخفي وراء «النظام القديم»، ولا ندري إن كان معالي الوزير وقتها من المعارضين أو الثوار أو التكنوقراط فقط، ليس مبرّرا لتبرئة «النظام الجديد» بحكوماته المتعدّدة المتعاقبة «المشكورة» والذي فاقم الوضع وأشعل كل الخطوط الحمر ولولا فشل من كان في الحكم قبل 2010 لما انتفض التونسيون لتحقيق حلمهم في حكم أفضل بعد 2011
والحلم التونسي واقعي في تقديرنا إلى ابعد الحدود، يكفي لتحقيقه احترام ذكاء التونسيين والقطع مع «الحقرة» ومع منوال التنمية القديم بدل مواصلة استنساخه وقطع ولصق موازناته والعدو وراء «شركائه» غير المرغوب فيهم دون الاستفادة من نقاط القوة ومن المتغيرات الذاتية والموضوعية
لقد فوّت حكام تونس الجدد على أنفسهم وعلى شعبهم فرصا عديدة ليس فقط للإنقاذ من حالة يرثى لها كما قال معاليه، وانما للإقلاع وبلوغ مراتب عليا في الديمقراطية الاجتماعية التي يتحقق بفضلها التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي وتتحقق فيها الكرامة والعدالة للمواطنين
بقلم مراد علالة