تطورت الأزمة الصحية ببلادنا بشكل تراجيدي سريع وارتفعت عقارب عدادات الموتى والمصابين والمهدّدين بالكورونا جراء التفشي العنيف للوباء عموديا وأفقيا في ظل بطء نسق التلقيح وسرعة اهتراء ما تبقى من المنظومة الصحية والافتقار لأدوات العمل والموارد البشرية الضروية لاستيعاب واستقبال المرضى وتأمين الخدمات الضرورية لهم.
إن هذا الواقع لا يتطلب حلولا سحرية ولا معجزات بقدر ما يستوجب قيادة وطنية موحّدة للحرب على الكورونا تنتفي فيها الحسابات الخاصة وتُقطع الايادي المرتعشة وتتحد العزائم الصادقة وتتظافر الجهود وتتكامل الأدوار بعيدا عن التدافع والتوازي وازدواجية الاختصاص
لقد سجلنا صراحة في غضون المرحلة السابقة أداء بطوليا لـ«الجيش الابيض» من العاملين في القطاع الصحي الذين رغم ضيق ذات اليد و«عبث» منظومة الحكم صمدوا حتى الان ولم يبخلوا على البلاد والعباد بحبة عرق وعرّضوا حياتهم للخطر، وهذ أمر إن كان واجبا وفرضا على أبناء البلد، فهو يبرز أيضا أن على هذه الأرض من يعشقها ويضحّي من أجلها بخلاف اللاهثين وراء الغنائم
في نفس السياق انظم أبناء المؤسسة العسكرية للمجهود الوطني في الحرب على الكورونا ونزل بواسل جيشنا الى أكثر من مدينة وحي وشارع لإسداء الخدمات للشعب والقيام بتلقيح المواطنين في ربوع الوطن
ليس ذلك فحسب، حرّكت أرقام الضحايا المفزعة ودموع بعض «المسؤولين» المرتبكين على ما يبدو ضمائر الأشقاء والأصدقاء فانهمرت «المساعدات» الشفوية والفعلية إن جاز القول وتسلّمنا جملة من المعدّات الطبية والتجهيزات الصحية وأسرّة الإنعاش وعبوات الأوكسيجين وكميات من الأدوية في انتظار تحقيق بقية الوعود المعلنة
وبالإضافة الى كل ما تقدم، واصلت «اللجان» عملها، وأساسا اللجنة العلمية واللجنة الوطنية/السياسية وتم اتخاذ جملة من الإجراءات «الصارمة» لعل أبرزها إقرار الحجر الشامل في بعض الولايات والحجر الموجّه في أخرى واتخاذ إجراءات إضافية موحّدة على المستوى الوطني تشمل المقاهي والمطاعم والمساجد ومنع التنقل بين الولايات، ليس ذلك فحسب منحت السلطات المركزية للولاة والسلط الجهوية والمحلية إمكانية اتخاذ إجراءات إضافية أو تعديل بعضها بناء على تطوّر الوضع الوبائي في كلّ جهة
هكذا ترتسم المشهدية في تونس تحت وطأة الوباء الذي أودى بحياة ما يقارب 16 ألف مواطن إلى حدّ الآن من بينهم حوالي 4 آلاف قضوا في غضون الشهرين الأخيرين فقط
إن هذا الواقع لا يحتمل التردد أو التخمين أو الشعوذة أو المراهنة على الخارج وإنما يتطلب كما أسلفنا وضوحا في الرؤى وإبداعا في التصور ومسؤولية في الأداء وجرأة في التنفيذ ولا يتسنى ذلك في تقديرنا الا بوجود قيادة وطنية موحّدة للحرب على الكورونا
لقد عرفنا خلال الفترة الماضية فصولا من العراك العبثي بين اللجنتين العلمية والوطنية وخرجت الخلافات الى الشارع ولم يُوفّق الجميع في بيان أن التطابق لا يمكن أن يكون آليا وكليا بين الطرفين لان ما ترتئيه اللجنة العلمية ـ وهو الصواب ـ مكلف بالنسبة الى سلطة سياسية هي للأسف عاجزة عن التجاوب وعاجزة عن المرافقة الاجتماعية للمواطنين الذين يُفترض أن ينصاعوا للإجراءات المؤلمة لكن عندما تصبح النجاة والحياة غير مضمونة ومهددة من جائحتين هما الكورونا من جهة ومن جهة ثانية الفقر والخصاصة فإن الملاذ الوحيد هو العصيان والتمرد والمغامرة بالنفس
وليس غريبا هنا أن توصي اللجنة العلمية مثلا بالحجر الشامل لمدّة 6 أسابيع إلى فترة ما بعد عيد الاضحى بالنظر إلى خطورة الوضع الوبائي لكن الحكومة لا تملك خيارات كثيرة وجنحت الى إجراءات أقل صرامة مراعاة للظرف الاقتصادي الصعب دون أن تصل الرسالة الى عموم الشعب وهذا أمر خطير في مناخ يسوده التشاؤم وانعدام الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة
قلنا إذن أننا بحاجة الى قيادة وطنية موحدة، وكم كان بودّنا أن يبادر رئيس الجمهورية منذ زمن على الأقل بترؤس مجالس وزارية محدّدة يكون جدول أعمالها إدارة الحرب على الكورونا وتوحيد الجهود المدنية والعسكرية في هذه الحرب أو يعقد اجتماعات استثنائية لمجلس الأمن القومي للغرض نفسه لا أن يتصرّف في شبه عزلة وقطيعة، أجل في قطيعة مع المكون الرئيس للسلطة التنفيذية وهو الحكومة، دون أن ننسى الجفاء الحاصل مع السلطة التشريعية وتفرّغ هذه الأخيرة للأسف لأشياء كثيرة لا تمت للعمل البرلماني بصلة بل وتمسّ الذوق العام وقيم المجتمع بسبب موجة العنف اللفظي والمادي التي طغت على مسرح مجلس نواب الشعب في المباشر
لقد قال رئيس الجمهورية منذ أمد بعيد أنه سيقود الحرب، ونحن في انتظار تفعيل ذلك وقد اتخذ خلال الأيام القليلة الماضية جملة من الإجراءات الهامة التي عهد لجيشنا الوطني القيام بها من قبيل تركيز المستشفيات الميدانية والقيام بمسح كامل تراب الجمهورية لتلقيح المواطنين فضلا عن تركيز مستشفيات ميدانية متنقلة بين الجهات حسب تطوّر مؤشرات الحالة الوبائية بالتنسيق مع الإطار الطبي وشبه الطبي المدني
إننا نقدر جهد مؤسستنا العسكرية ونقدر نجاحها في تحقيق المعادلات الضرورية بين أدوارها في الحرب على الكورونا وبقية الحروب التي تخوضها ضد الإرهاب والتهريب وحماية ترابنا برا وبحرا وجوا لذلك نريد تجنيبها الاستنزاف ومزيدا من الإرهاق وتحميلها مهمات ووظائف هي في الأصل موكولة لمؤسساتنا المدنية وهذه الأخيرة قادرة على الوفاء بها تحت القيادة الوطنية الموحدة وحتى نقطع الطريق أيضا أمام القراءات والتأويلات التي يأتيها البعض وهي بعيدة كل البعد عن عقيدة جيشنا وشرف قواتنا المسلحة والطبيعة المدنية لدولتنا
واللافت ما جاء في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية من أن ساكن قرطاج «سيواصل متابعته المستمرة والدقيقة لملف جائحة كوفيد ـ19ويدعو في نفس الوقت كل التونسيين والتونسيات إلى الالتزام التام بالإجراءات التي أعلنتها اللجان العلمية المختصّة لمحاصرة الجائحة والقضاء عليها» والمتابعة المستمرة والدقيقة لا تكون في تقديرنا سوى في إطار قيادة وطنية موحدة للحرب على الوباء يتم في إطارها تقاسم الأدوار والعمل فقط على الانتصار ولاشي غير الانتصار
بقلم: مراد علالة