بعض من السيناريوهات التي يُعِدّها الغنوشي وجماعته لساكن قرطاج

كنّا قدّمنا بعضا من الاحتمالات التي تفسّر هذه العلاقة الناشئة والغريبة بين الفخفاخ والرئيس سعيد… قدّمناها في حذر شديد لأنّنا كنّا نفتقد إلى تلك الآليات التي بها يمكن فهم حقيقة ما يحدث، ونلمس المنطق الذي تقوم عليه. لكن وبعد أن تكلّم الرئيس، وبعد أن تناغم معه سريعا الفخفاخ، خاصّة أنّ روزنامة عمله في التقائه بممثّلي الأحزاب تغيّر بين ليلة 31 جانفي وفجر01 فيفري…فقد كان مبرمجا أن يلتقي بالأحزاب أوّلا ثمّ بالصحافيين في اليوم الثاني ليقدّم نتائج مشاوراته معهم.. فإذا بالبرنامج يتغيّر، وإذا به يرجئ لقاء الأحزاب.. وليس بخفيّ ما يحمله هذا التغيير من دلالات تسهم في إنارة ما ظلّ عالقا في أذهاننا وغامضا. ولعلّ أوّل تعليق يباهتنا هو التالي » إنّ الرجل استقوى بموقف الرئيس في حواره التلفزي » …استقواء غريب خاصّة إذا كان صادرا من شخصية موقفها هشّ، وترتجف أمام كلّ ريح حتى وإن كانت ضعيفة!!! والسؤال، من أتى الفخفاخ بهذه الشجاعة كلّها!!!! وهو المرتجف الباحث عن سند حزبي بالأساس.. ومن أين استمدّ هذا التحدّي الذي يفتح في وجهه بابا من المواجهات هو في منطق الأمور في غنى عنها، خاصّة إذا أنزلناه في منطق الأحداث المتسارعة التي يعيشها؟؟؟ هل اكتسب في هذه السنوات التي غاب فيها عن المشهد السياسي بطولة وشجاعة نادرين؟؟ هل عاش تجربة وجودية طيلة هذه السنوات الستّة فجعلت منه شخصية متمرّدة وثائرة ولا ترضى سوى بمن يماثلها قوّة ورفضا وبطشا؟؟؟

الأكيد، أنّ أمورا أخرى تمسك بخيوط هذه التحوّلات، وهي أساسا، خيوط خفيّة حتى تضمن حلول هذه الشخصية  » المبعوثة » في جسد الفخفاخ، ونبيّن ذلك في بعض من الفرضيات

بات واضحا اليوم أنّ الفخفاخ ليس سوى  » حصان طروادة »، أو بمثابة ذاك الشمروخ الذي يرمى به في مجموعة حتى نمتحنها في ردّة فعلها، ولا يغيب عنّا أنّ الشمروخ سريع الالتهاب وسريع الانطفاء، وذاك بقطع النظر عن أنّ الفخفاخ واع بهذا الدور الذي كلّف أو جاهل به

انطفأ لهيب هذا الشمروخ منذ اللحظة التي واجه فيها رفض النهضة، وبالمقابل بدت النهضة كالمستيقظ من جروح أصابتها برفض الجملي، لترسي شروطا هي نقيض ما كانت قد كرّسته في حملتها الانتخابية وفي اعتبار نفسها حزبا يحمل نفسا ثوريا، وانّها ترفض التحالف مع قلب تونس حتى وإن كلّفها إعادة الانتخابات، هذا إلى جانب تندّر الغنوشي بما عرف به حزب القروي.. وبدت كأنّها تريد الثأر لنفسها خاصّة بعد أن أدركت خيانة حزبي الشعب والتيار لها، وفهمت أنّها لن تستطيع أن تحكم معهما، وأنّ أفضل الحلول أن تتحالف مع حزب سليل النداء ويحمل في كيانه المكوّنات الجينية التي غرسها فيه الباجي

لذلك سلكت النهضة سياسة » التوريط »، فبعد أن التزم الفخفاخ متحمّسا بإقصاء القلب والدستوري تردّ النهضة الفعل لتفرض حليفها، وهي تعلم يقينا بأنّ رفضها وشروطها إنّما هي موجّهة أصلا إلى قيس سعيد الذي لم يفتح ذراعيه للنهضة ولغيرها من الأحزاب في حواره التلفزي، بل كان في موقفه عنيدا باختيار الحياد والتعامل مع الجميع « على نفس المسافة » على حدّ قوله، وفي منطق النهضة يعتبر التعامل معها على قدم المساواة مع غيرها موقفا مناهضا لها دون شكّ

فهمت النهضة أنّها تواجه معارضة قرطاج، فكان لزاما أن تتخّذ الاحتياطات الكفيلة بنجاتها ممّا يدبّره لها سيعد نهارا وليس ليلا. فأعلنت في خطّ مواز مع شروطها لقبول حكومة الفخفاخ عن تقديم مشروع تعديلي في العتبة. وفهم الكثيرون أنّ النهضة بدأت تعدّ لانتخابات مبكّرة. وكثر اللغط في هذا الاتجاه

لكن، إلى أيّ مدى يمكن اعتبار النهضة جادّة في تقديم مشروع تعديلي للقانون الانتخابي…؟؟!! وهل هي مطمئنّة لمروره؟ ومطمئنّة لما قد تبيح به الانتخابات القادمة إذا حلّ المجلس وطبّقت عتبة 5 بالمائة؟؟

العملية الذهنية البسيطة تفيد بأنّ هذا المقترح سيجد سندا برلمانيا يضمّ كتلة النهضة والقلب والكرامة، وأمام تصريحات عبير موسي نفهم أنّ الدستوري الحرّ لا يجد ضررا في تمريره، وعلى هذا الأساس فإنّ المشروع سيمرّ بتصويت: 54 + 38 + 20= 122 وهي القاعدة الدنيا المطمئنة وإذا أضفنا 17 نائبا للدستوري وإن كنّا نعتقد أنّه سيكتفي بالتحفّظ فإنّ العدد يرتفع إلى 137 صوتا

وفي اعتقادنا أنّه مهما اختلفت التأويلات وتنوّعت في مسألة اختراق الشاهد لحزب القروي فإنّ القانون لن يجد صعوبة في أن يمرّ

لكن، هل قرأ خبراء النهضة جيّدا الخارطة السياسية الجديدة اليوم؟؟ خارطة شهدت ميلاد ميولات إيديولوجية قد لا تتفق معها في المنهج السياسي وإن كانت لا تختلف عنها في المبادئ؟ وهل إنّ النهضة واثقة مّما قد يكون سعيد قد قرّره من حلول إذا أطيح بحكومة الفخفاخ؟ كأن يسارع إلى حلّ البرلمان، سيما وأنّ الرجل صرّح في لقائه الأخير أنّ حلولا أخرى يتكتّم عليها ويسمح بها الدستور؟

فهم البعض أنّ من الحلول التي يتكتّم عليها سعيد الإبقاء على الشاهد رئيسا للحكومة، بما أنّه قد حصل على تزكية برلمانية، وليس له سوى أن يغيّر الوزراء كما تشتهيه نفس سعيد، ولم لا النهضة، بما أنّه حليفها، خاصّة أنّ حزبه اصطف في اللحظات الأخيرة إلى موقف النهضة ويكون بذلك قد ضمن قلب تونس أيضا، فيستطيع الحصول على ضمانا في التصويت على وزرائه. استمدّ البعض هذا التأويل استنادا إلى موقف سعيد في حواره من حكومة تصريف الأعمال، رفض هذه العبارة واعتبر أنّ هذه الحكومة صالحة للماضي والحاضر. ولم يفهموا من قوله هذا رفضا لحكومة يرأسها الشاهد بقدر ما هو رفض لصفة » تصريف الأعمال »

فهل أغلقت الأبواب في وجه النهضة؟ أليس لديها هي أيضا الحلول التي تقيها من الصدام مع سعيد؟

أجل للنهضة حلّ يسمح لها بأن تستردّ ما كان قد ضاع منها باختيارها الجملي، ولا أعتقد أنّه حلّ يسعف النهضة فحسب بل جلّ الأحزاب الممثلة في المجلس، ولعلّه الحلّ الأقرب لأن تختاره النهضة، وليس بالبعيد أن تكون قد استعدّت لأن ترسم له الخطّة المناسبة

قلنا إنّ جلّ الأحزاب الممثلة في المجلس تميل إلى اتقاء المواجهة مع سعيد الذي صار يمتلك خيوط اللعبة، ولعلّ توجّسها ممّا قد يخبّئه لها من مفاجآت سيدفعها إلى تبنّي سيناريو النهضة، بما في ذلك الأحزاب المعتبرة معارضة مثل الدستوري الحرّ؛ لأنّ الخارطة السياسية الجديدة هي ليست الخارطة السياسية التي دخلت بها الأحزاب معركة انتخابات 2019. ورغم ما أكّدته بعض الفرضيات إيجابيات قد يحملها مشروع 5 بالمائة في قانون العتبة للنهضة والقلب فإنّ هذه الفرضيات أهملت  » حالة الوعي » الجديدة التي صار ينعم بها جانب هامّ من الخزّان الانتخابي في النهضة والكرامة والقلب وفي حركة الشعب، وقد انجذب جميع هؤلاء إلى مغناطيس ظاهرة سعيد.. وليس بالغريب أن تبوح الانتخابات الجديدة بحقائق تختلف تماما عن الأرضية التي قامت عليها انتخابات أكتوبر 2019

صحيح أنّ الرئيس سعيد صرّح في حواره الأخير أنّه لا يرغب ولا يعمل على تكوين حزب تابع له.. لكن لا يغيب عنّا أنّها تلك سياسته حتى في الرئاسية عندما اعترف بأنّه يفتقد إلى برنامج وليس له موالين ومع ذلك صوّت له الجمع في الدور الثاني بكثافة، ولا نقف عند فرضية إن كان التصويت له دعما أم هو ضدّ القروي، فتلك قضية أخرى وتخرج بنا عن سياق تحليلنا

فالثابت أنّ الرجل قد تعوّد على أن تأتيه الإنجازات  » صاغرة » ودون تعب أو جهد، وهو لا يرفضها إذا هيئت له؛ وعلى هذا الأساس، إذا عمل أتباعه على ترشيح كتلة ذات طابع » سعيدي »، ولها وزنها فإنّه لا يتردّد لحظة في الاستناد إليها لتطبيق تلك البرامج الجذرية والتي يرى فيها استجابة لما يريده الشعب

نحن لا نستبعد أن تكون النهضة وأحزاب أخرى قد فكّرت في هذه المسألة، وأنّه كان لزاما عليها أن تتنكّب المزالق التي وضعها سعيد في طريقها حتى لا تصير مثل العجينة الطيعة بين يدي الرئيس

على هذا الأساس، نقول إنّ السيناريو الأقرب بالنسبة إلى جلّ الأحزاب والنهضة أوّل المستفيدين هو التالي، ونختصره في أصل فقهي من أصول الفقه هو : سدّ الذرائع

أو قل بلغتنا العادية سدّ الطرق في وجه سعيد، بعد أن فُتِحت له فتحا. وذلك بتزكية الفخفاخ بما فيه من عيوب، ثمّ بعد فترة وجيزة سيتعقّب فيها النواب هفوة، وكم ستكون هفواته كثيرة!! لسحب الثقة منه. وهكذا ستؤول الأمور من جديد إلى النهضة باعتبارها الحزب الأكثر عددا لتعيّن رئيس حكومة، وتكون قصّة سعيد والنواب قد انتهت

وفي هذه المرّة تكون الأمور أكثر يسرا، بما أنّ النهضة لا تقدر على السلطة منفردة، وبما أنّ حلّ الباجي التوافقي هو أفضل الحلول حتى تظلّ النهضة حاضرة ولا تتحمّل أيّة مسؤولية فإنّها ستختار حكومة توافق، وسيعيد التاريخ نفسه، فتمنع النهضة من المواجهة، ولا محاسب ولا رقيب

بقلم الدكتورة نائلة السليني