أدّت بعثة رفيعة المستوى من البنك الدولي برئاسة ابن بلدنا نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا فريد بالحاج زيارة مهمة الى تونس مطلع الشهر الجاري التقت خلالها بعدد كبير من المسؤولين السامين في منظومة الحكم وفي أهم المنظمات الاجتماعية علاوة على الوقوف على حيثيات وتفاصيل وتطورات مسلسل أزمة الحكم المتواصلة منذ شهور وذلك في المباشر بما أن لعبة كسر العظام ونشر الغسيل ما تزال متواصلة أيضا
وقد تزامنت هذه «المهمّة» مع «مهمة» وسلوكات على نفس الدرجة من الأهمية والخطورة جاءت من قبل صندوق النقد الدولي وتزامنت أيضا مع تصنيف سلبي جديد لتونس من قبل وكالة موديز للتصنيف الائتماني التي حافظت للأسف كذلك على توقعاتها السلبية لتصنيف جديد وتخفيض آخر شبه مؤكد في الفترة القادمة
وقد حظيت هذه «الوقائع» باهتمام اعلامي لا يستهان به بيد أن ما افتقدناه ربما هو الربط بينها وبين التقاطعات والأدوار والاستحقاقات والانتظارات والإملاءات المرصودة والمطلوبة منّا ومنهم ان جاز القول بما أنّ الأمر يتعلق بالمحيط الخارجي للدولة التونسية التي يقف فيها الاقتصاد والسياسة في مفترق الطرق
والمؤلم حقا أن يحدث كل هذا في الوقت الذي نحيي فيه الذكرى 65 للاستقلال وما يمكن أن يعنيه الاستقلال من تحوّز وتمسك ودفاع عن السيادة الوطنية وعن استقلال القرار الوطني وعن ضرورة بناء الدولة القوية العادلة، فأين نحن من كل هذه الشروط والاكراهات الضرورية والمتطلبات الموضوعية للدولة الوطنية التي تحقق مصلحتها الوطنية ضمن معادلة المصلحة الدولية المشتركة بعيدا عن الوصاية والتبعية والإذلال؟
لقد عادت بعثة البنك الدولي الى قواعدها سالمة في بلاد العم سام بعد أن انجزت «المهمة» وهنا لا بدّ من التنويه بجهود ابن بلدنا كما أسلفنا الذي لم يدخر في تقديرنا الجهد ولا الوقت ولا رحابة الصدر رغم أن كل شيء كان يحشر الرجل في الزاوية ويطبق على سعة صدره وهو ما يستنتجه المتابع للاطلالات الإعلامية للمتحدث باسم البعثة
لقد التقت البعثة بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وكذلك برموز منظومة الحكم أي الرؤساء الثلاثة والطريف أن التصريحات بعد هذه اللقاءات بدت وكأنها «ألاكارت» على المقاس سواء منها الواردة على لسان مسؤول البنك الدولي أو على لسان الأطراف التونسية وصفحاتها الرسمية
فاتحاد الأعراف مثلا الذي التقته البعثة كشف لنا تأكيد البنك الدولي على أهمية القطاع الخاص وضرورة دعم الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية
في نفس السياق أكد نائب رئيس البنك الدولي خلال لقائه بقيادة المنظمة الشغيلة على أهمية دور الاتحاد العام التونسي للشغل وسمعته العالمية وحرص كل الأطراف في العالم على انجاح التجربة التونسية وتحقيق الانتعاشة الاقتصادية رغم الصعوبات التي تمر بها البلاد
وكانت ثمة جملة مشتركة تكررت بعد لقاء الرؤساء الثلاثة وهي الوقوف عند الوضع الاقتصادي والسياسي الصعب والحديث رغم ذلك عن مؤشرات ايجابية علاوة على تفرّد كل طرف تونسي بتقديم فهمه لفحوى اللقاء لدرجة التنافر والتدافع كما سنبيّن لاحقا
وقد تحلى مسؤول البعثة بكثير من الجرأة في خاتمة لقاءاته حين تحدث للاعلام وبالخصوص لاذاعة موزاييك آف آم الخاصة عن دوافع قدومه إلى بلده ولخّصها في سببين أولهما الوضع الاقتصادي «الكارثي» وثانيهما الفقر، أجل الفقر الذي لم يفاجئنا ابن بلدنا صراحة حين تحدث عن نسبة 21 بالمائة وهي نسبة لم تبلغها تونس منذ الاستقلال في 1956
نحن فقراء، أجل نحن فقراء بفضل حكامنا القدامى والجدد ولو أفلح القدامى في بناء الدولة الوطنية القوية العادلة لما خرّت بهذا الشكل الكارثي ولما انفردت بها ذئاب الداخل والخارج
نحن فقراء، هذا ليس عيبا، لكن العيب حين نكابر ونخاتل ونوزع المواقف على المقاس
خراج زيارة البنك الدولي الظاهر، جليّ وبسيط، بضع مئات الملايين من الدولارات و«نصائح» بالجملة حول ترشيد المصاريف والاجور والاصلاحات وغيرها من الإملاءات المعهودة من لدن البنك وكذلك صندوق النقد الدولي، أما الخفي فنتركه لادارة الصندوق في بلاد العم سام وبطبيعة الحال كيفية تعامل حكامنا مع هذه الادارة في قادم الأيام فالآجال مضبوطة وهناك شهر فقط تقريبا لترجمة «الاتفاقات» على أرض الواقع
وهنا ندرك أن للبنك الدولي سياساته وخياراته وهي مضبوطة في لوائحه واستراتيجياته المبنية على غرار البنوك العامة والخاصة الصغرى والكبرى على قاعدة موازين القوى فالدائن «الضعيف» يخضع للشروط المحجفة ويسلّم بالأمر الواقع خصوصا عندما يفتقد للارادة السياسية في صون الذات وتقديم الحلول الوطنية الداخلية على فتات الحلول الخارجية وخصوصا في ظل ضعف الجبهة الداخلية ان جاز القول كما هو الحال ببلادنا اليوم للأسف
إنه من المؤسف أن ننشر الغسيل كما اتفق وأن ننقل لضيوفنا تفاصيل «عركاتنا» الخاصة فالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من الدوائر المالية والدول النافذة على بيّنة مما نحن فيه ولسنا نغالي حين نقول انها جزء منه وسبب في الكثير منه لذلك لم نكن نرغب أن نقرأ على صفحة رئاسة الجمهورية مثلا أنه تم رصد 300 مليون دولار لفائدة نحو مليون عائلة تونسية في اطار برنامج اجتماعي «تحت اشراف رئاسة الجمهورية»… هكذا وكأن البنك الدولي لا يثق الا في قرطاج وينحاز الى رئاسة الجمهورية في صراعها مع رئيسي الحكومة ومجلس نواب الشعب
في المقابل، تطنب رئاسة الحكومة في وضع النقاط على الحروف وتبين بدورها أن المبلغ ليس سوى استجابة من البنك الدولي لطلب الحكومة ضمن برنامج اجتماعي يحمل اسم «أمان» تحت اشراف وزارة الشؤون الاجتماعية وهو يتنزل في اطار الاصلاحات
هذه في تقديرنا الخلاصة التي خرج بها فريق البنك الدولي، تدافع من أجل خلع باب مفتوح على مصراعيه في الوقت الذي كان يفترض فيه انكباب الجميع على تحصين البيت من الداخل حتى يقف في وجه الاعاصير القادمة من الخارج
بقلم مراد علالة