الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل تكبح المرور بالقوة

يقرّ المتابعون للشأن النقابي والحركة العمالية بشكل عام في بلادنا وخارجها، بأن الاتحاد العام التونسي للشغل، منظمّة فريدة من نوعها، «تدخل الماء ولا تبتل وتقترب من النار ولا تحترق» كما يقال، تأتيها الحراب من كل الجهات فتستهدفها منظومات الحكم ويتسبب بعض أبنائها في هزّ صورتها لكنها في اللحظات الحاسمة كما يقول شاعر تونس الكبير محمد الصغير أولاد أحمد تنحاز لشعبها وتظهر للقاصي والداني أنها ما تزال «أكبر قوة في البلاد» خارج الحكم وقادرة على تعديل البوصلة والتأثير في الواقع بكل مسؤولية و : إبداع

وفي هذا الصدد بالذات، كانت الهيئة الإدارية للاتحاد المنعقدة أمس الاثنين 23 ماي 2022 وفيّة للدور الوطني والاجتماعي ولانتظارات التونسيين في هذا الظرف الدقيق الذي زادته الأزمة المركّبة الجاثمة تعقيدا وخطرا على البلاد والعباد حيث رفضت بوضوح «المشاركة في الحوار بالصيغة المعلنة في المرسوم» الرئاسي الأخير حسب ما جاء في البيان الختامي وأنّ الهيئة تبقى في «حالة انعقاد دائم» لمتابعة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتحتفظ بـ «الحقّ الكامل» و: بكل استقلالية في اتخاذ الموقف والقرار المناسبين بخصوص الاستفتاء والانتخابات التشريعية القادمة وأيّ محطّة سياسية أخرى

ليس ذلك فحسب، تبنّت الهيئة الإدارية توصيات مجمعي القطاع العام والوظيفة العمومية التي نصّت على شنّ إضراب عام احتجاجي في هذين القطاعين تحت عنوان الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشغّالين وأوكلت للمكتب التنفيذي الوطني متابعة تنفيذ هذا القرار وتحديد توقيته وتراتيبه وحملة التعبئة من أجل إنجاحه بالتنسيق مع الهياكل الجهوية والقطاعية إلى جانب مطالبة الحكومة ومنظمة الأعراف بتنفيذ الاتفاقيات المبرمة والشروع في المفاوضات الاجتماعية فورا

هي وصفة نقابية تونسية تونسية مائة بالمائة وضعتها الهيئة الإدارية للمنظمة الشغيلة لتكبح محاولة رئيس الجمهورية «المرور بالقوة» دون غلق الباب كما يقال، فرفض المشاركة هو في الصيغة المعلنة للحوار، والإضراب العام خيار مفتوح غير محدّد في الزمان، والهيئة الإدارية نفسها في حالة انعقاد أي أن الوقت ما يزال متاحا للرئيس للتأخر وفق المقولة الشهيرة خطوتين إلى الوراء بعد أن تقدم خطوته المثيرة للجدل إلى الإمام

وهنا كان الأمين العام صريحا ومنفتحا في ختام أشغال الهيئة الإدارية حين وجه رسالة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيّد قال له فيها إنّ : التنازلات والمراجعات في الاتجاه الإيجابي ومن أجل مصلحة الوطن هي من شيم الكبار وليست من شيم الضعفاء.. الشاطر هو اللّي يخمّم في مصلحة البلاد فلنفكر هل الحوار بهذا الشكل سيحلّ مشاكل البلاد أم سيضاعف تعقيداتها؟

هكذا تساءل الأمين العام وفتح الباب على مصراعيه أمام ساكن قرطاج كي يراجع سرعته في المرور بقوة وتدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان بعد أن اتضح أن الطيف المدني والسياسي غير قادر على تحمّل مسؤولية الانخراط في مشروع «أحادي نتائجه معلومة مسبقا» مهما كانت المبرّرات إلا إذا تعلق الأمر بحسابات ذاتية ومصالح شخصية وفي ذلك وشم ووصم لن يُمحى من التاريخ

إن أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل لم يتجنّوا على أحد حين ذكّروا بأن المرسوم عدد 30 الصادر بتاريخ 17 ماي 2022 حول إرساء «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة» لم ينبثق عن تشاور أو اتّفاق مسبق ولا يرقى إلى التطلّعات الوطنية ولا يستجيب إلى انتظارات القوى الوطنية الصادقة التي رأت في حدث 25 جويلية 2021 فرصة تاريخية للقطع مع عشريّة سوداء وبناء مسار تصحيحي يُرسي ديمقراطية حقيقية يكون للعدالة الاجتماعية المحلّ الرئيس فيها، وهذا الموقف الذي اتخذته قيادة اتحاد الشغل الصيف الماضي هو الذي جرّ وشجع كيانات مدنية وسياسية على السير في نفس النهج بل والاستئناس ببيان الاتحاد آنذاك وقصه ولصقه كما حصل مع البعض

وللأسف لم يأخذ رئيس الجمهورية على ما يبدو هذا المعطى بالحجم والرهان الذي يمثله وها هو الاتحاد يخلط الأوراق من جديد ولا يكبح فقط فرامل القصر وإنما فرامل بعض الشخصيات والكيانات المدنية والسياسية التي قفزت دون حركات إحمائية في البحر الأمر الذي أغرقها أو سيغرقها إذا لم تعد بسرعة إلى برّ الأمان

وهنا لا مناص من التذكير بأن مسؤولي بعض المنظمات دفعوا بأنفسهم إلى وضع حرج بالتسرع في عدم قراءة اللحظة وعدم التنسيق أو على الأقل التشاور والاستئناس برأي «النقابة» ليس من باب الوصاية ولكن من باب التجربة والخبرة في ربط الدورين الوطني السياسي من جهة ومن جهة ثانية الدور الاجتماعي

إن ارتدادات الاعلان السريع عن المشاركة في الحوار المزعوم ستكون مدوية داخل المجتمعين المدني والسياسي ولا نخال أن قطاع المحاماة مثلا المقدم على جلسة عامة انتخابية وكذلك الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان سيكون «أركانها» في وضع مريح في قادم الأيام أمام التاريخ وأمام الشعب

ونفس الرسالة قد يتلقفها الأعراف بذكاء بعد أن تابع الجميع ما حل بالاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأحزاب التي تمارس الحب والود من جانب واحد إن جاز القول

في غضون كل هذا تزداد التحديات الاقتصادية والاجتماعية ويزداد اهتمام الخارج بنا ليس حبا فينا أو حبا في بعضنا ممن يستقوون به وإنما حرصا على المصالح الخاصة التي هي ليست بالضرورة في تقاطع مع مصالحنا والحال أنه لا خيار لشعوب الأرض سوى البحث عن المصلحة المشتركة في إطار السيادة بطبيعة الحال واستقلال القرار الوطني