تعيش حركة النهضة هذه الأيام حالة من الفوضى لم تعرفها سابقا فالخلافات التي جدت داخلها قبل سنة 2011 وهي في السرية تم فضّها بقرارات إدارية استهدفت المحافظة على بنائها التنظيمي، أما اليوم وبعد 10 سنوات من العمل العلني وهي في السلطة فإن الخلافات خرجت إلى العلن وصدرت البيانات والمواقف المعارضة التي ما كنا نتصور صدورها خصوصا تلك التي تقدح في رئيس الحركة ومؤسّسها، بدأت هذه الخلافات في الخروج إلى العلن قبل المؤتمر العاشر وبعده لسببين اثنين
1) تضخم دور عائلة الغنوشي وتأثيرها في الحركة من خلال إشرافها على
*ـ مالية الحركة علما وأن هذه الحركة هي الحركة الوحيدة التي لا نجد فيها أمين مال منتخب عضوا في قيادتها، حيث ينصّ نظامها الأساسي على تكوين هيئة للرقابة والتدقيق المالي تابعة لمجلس الشورى وقد حدّد الباب الرابع من القسم السادس مهمّتها في الرقابة والتدقيق فقط أما التصرّف فهو موكول لجهات أخرى لم يحدّدها هذا النظام
*ـ شبكة العلاقات الخارجية التي بناها الغنوشي طوال النصف قرن الماضي مع الدول والقادة والجمعيات وأصحاب الأموال وغيرهم من النافذين، ويذكر الجميع أن أول وزير خارجية تم تعيينه بعد استلام الحركة الحكم هو صهر الغنوشي وقد أصرّ هذا الأخير على تعيينه رغم الاعتراضات الكثيرة ويروي محمد بن سالم في حديث إذاعي له أن عبد الفتاح مورو عُيِّن مكلفا بالعلاقات الخارجية داخل الحركة ولكن بصورة صورية حيث تم استبعاده من كل نشاط ضمن هذا الاختصاص لصالح الصهر، تغوّل العائلة تلمّسه المنتسبون لمّا وصلت الحركة إلى الحكم وأخذت في توزيع الغنائم والمناصب، وما كان الحديث عنه يتمّ سرا أصبح يُتناقل علنا في الإذاعات والجرائد والأمثلة على ذلك تندّ عن الحصر
2) تقدم الغنوشي في العمر أدى إلى الخوف من أن تستفرد العائلة بالحركة بعد غيابه وهو ما دفع بالبعض إلى البحث عن أسلوب للخلافة يتم بسلاسة تحفظ للحركة تماسكها الظاهري على الأقل في المرحلة الانتقالية وتستبعد العائلة بهدوء عن مواقع القرار المالية والتنظيمية والأفضل أن يتمّ ذلك في حياة المؤسّس حتى يكون صمّام أمان حيث اقترحت هذه المجموعة أن تكون دورته الرئاسية في المؤتمر العاشر هي آخر دورة يغادر بعدها موقع المسؤولية الأولى فوافق على ذلك بعد لأي، غير أنه فيما بعد امتنع بحجج شتى عن الوفاء بما تعهّد به وهو ما أثار حنق وغضب جملة من القيادات بعضها غادر وبعضها هدّد بذلك
والجماعة في خضم معركة الخلافة فاجأهم رئيس الجمهورية بقرارات 25 جويلية التي لم تكن في الحسبان، ففي الوقت الذي كانوا فيه منشغلين بمعركة الخلافة وحرب التعيينات أغلق البرلمان وفُعِّل الفصل 80 لتتتالى بعد ذلك القرارات التي استهدفت حواشي حركة اختلط عليها الأمر فأصدرت البيانات المتضاربة تارة تندّد بالانقلاب وأخرى تعتبر أن ما حدث خطوة في طريق إصلاح الانتقال الديمقراطي، غير أن اللافت للنظر أن بعض قياداتها اتجهوا إلى تحميل الغنوشي المسؤولية كاملة فيما حدث بل وصل بعضهم إلى التهديد بتكوين حزب آخر في صورة ما إذا لم يتم التراجع خطوة إلى الوراء، والسؤال الذي يطرح نفسه هل أن بيانات ومواقف المجموعة التي طالبت بتنحية الهاروني من رئاسة مجلس الشورى وعبد اللطيف المكي ومحمد بن سالم وغيرهم تعبّر فعلا عن إمكانية انشقاق وخروج عن الحركة أو أنها محاولة للالتفاف على قرارات 25 جويلية بتحميل الغنوشي المسؤولية وطاح الكاف على ظلّه، في تقديري أن الجواب يستلزم الإشارة إلى أن
1) البيانات والمواقف التي صدرت عن هذه المجموعة جميعها تتحدث عن إجراءات 25 جويلية بإيجابية ولكنها لا تشير إلى الأسباب التي دفعت بالرئيس إلى اتخاذها، فالموقف السياسي الذي لا يكون مبنيا على أسباب ومعطيات واقعية يسهل استخدامه في كل الاتجاهات كما أنه مراوغ بحيث يختلف مضمونه المعلن عن هدفه المضمر الذي هو حماية ما تبقى من هيكل الحركة في حالتنا هذه
2) السياسات التي انتهجتها حركة النهضة منذ 2011 جميعها من وضع الغنوشي بما تحمل من تقلبات والأصح انقلابات في المواقف وتناقض في الأهداف والذي تجب الإشارة إليه أن قيادة الحركة وبدون استثناء دافعت باستماتة عن الخيارات التي صاغها مؤسّسها ولم نسمع أن واحدا منها أبدى اعتراضا على التسفير إلى المحرقة السورية أو تسليم البغدادي المحمودي أو تفليس الدولة بالتعويضات أو تدمير الميزان التجاري لصالح تركيا أو اصطفاف الحركة في الأجندة القطروتركية…. والغريب في الأمر أن محمد بن سالم الذي يحاول أن يظهر في صورة المعترض على سياسات الغنوشي كان من أكثر منتسبي الحركة عملا على تنفيذها من ذلك أنه أيام كان وزير فلاحة قام بتفكيك جهاز حراس الغابات وتعويضهم بجماعة العفو التشريعي العام ممّا مكّن الإرهابيين من احتلال جبال الشعانبي وغيره وقد أكد القضاء هذه الوقائع في حكم بات صدر سنة 2019 نقض فيه اتهام بن سالم للطفي العماري بالثلب لأنه أثار الموضوع، المسألة الوحيدة التي ظهر حولها خلاف علني هي مسألة الخلافة في المؤتمر العاشر وقادها من حَبَّر البيانات الداعية إلى التفاعل الإيجابي مع قرارات 25 جويلية واستعمالها للتخلص من الغنوشي الذي يبغون تحميله أوزار وخطايا المرحلة كاملة رغم أن الحركة جميعها وبأحزمتها السياسية المندثر منها والموجود تتحمل المسؤولية كاملة فيما آل إليه حال الوطن من انهيار وهوان في ظل حكمهم
3) هذه البيانات هي في تقديري صرخة في واد لأنها أعجز من أن تصل إلى مبتغاها بدفع الغنوشي إلى الاستقالة وهو الذي يعتبر الحركة ملكا خاصا له ولا يقبل أن ينازعه في ذلك أحد فقد سبق أن قال لمن هدّده بالانشقاق وتكوين حزب « أرض الله واسعة » هذا من ناحية ومن ناحية أخرى القيادات جميعها معيّنة أو مرضي عنها من طرفه، وما يظهر في بعض الأحيان من اختلافات إنما هي لتمام الصورة التي يروّج لها عن الإسلام الديمقراطي وتؤكد التجربة التاريخية أن الذين أعلنوا استقالاتهم عادوا بعد مُدد متفاوتة إلى خدمة الحركة من مواقع مختلفة داخلها وخارجها
ومهما صنع هؤلاء لإنقاذ مركبهم فقد ثبت لدى الجميع أنهم لم يستطيعوا وهم في الحكم طوال عشر سنوات كاملة أن يجدوا لأنفسهم موقع قدم في تونس التي بقيت وستبقى عصيّة عليهم مهما صنعوا لأنهم نبت أجنبي ولاؤه للأمة وليس لتونس.
بقلم أنس الشابي