المرصد يُزعج القرضاوي في مرقده

إثر مظاهرة حزب « التحرير » يوم 14 جانفي التي رفع فيها العلم الأسود مناديا بدولة الخلافة، أصدر المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة بيانا يُدافع فيه، كعادته، عن مبدأ مدنية الدولة التونسية وعن قيم الجمهورية، مُذكّرا، كعادته أيضا، بوجوب غلق كل المؤسسات التي تدّعي تربية أطفالنا وشبابنا في حين أنها تُعلّمهم التطرف الديني

ولابدّ من التذكير هنا بما قاله القيادي النهضوي عبد الفتاح مورو للداعية المصري وجدي غنيم من أن الشبان والكهول التونسيين لا أمل في أن يُصبحوا « إخوانا »، بل يجب الاعتناء بأطفالهم على أمل أن يتلقّوا تكوينا « دينيّا ». ذلك أن التكوين الديني الذي تلقّاه كهول اليوم في المدارس البورقيبية تُنتج فكرا نقديّا وعقلا مستنيرا، وهو ما لا يُساعد على أدلجتهم في الاتجاه الإخواني

وما راعنا إلا وأصبح هذا التمشّي سياسة منهجية للبلاد خلال حكم الترويكا والعشرية السوداء عموما، فانتشرت بشكل مثير للانتباه الكتاتيب الإخوانية التي كثيرا ما كانت تحمل اسم « المدارس القرآنية »، حيث يتمّ غسل أدمغة الأطفال من أربع إلى ست سنوات، باستخدام أصحاب اللحى الطويلة والقميص الأفغاني والنساء المنقّبات أحيانا، وحيث تُجبر في بعض الحالات فتياتنا الصغيرات على ارتداء الحجاب رغم صغر سنّهن

في هذه « المدارس القرآنية »، يتمّ بالأساس تحفيظ الأطفال القرآن الكريم لأطفال في سنّ تتطلب تربيتهم بيداغوجيّا وسيكولوجيّا واجتماعيّا تعليمهم التصوير والغناء والرقص واللعب إلى جانب تعلّم بعض المبادئ الدينية التي يُمكن لعقل طفل صغير استيعابها مثل حب الخير وطاعة الوالدين… لكن المشرفين على هذه « المدارس » عادة ما يقتصرون على تحفيظ السور القصيرة للأطفال دون فهمها، بما فيها عبارات ومفاهيم لا يُدركها حتى أهل الاختصاص في اللغة العربية وفي التاريخ مثل « ومن شرّ غاسق إذا وقب »… كما أنهم يُحدّثون الأطفال عن نار جهنّم وعن عذاب القبر وما إلى ذلك من العبارات التي تُؤرّق الطفل وتجعل منه كائنا غير متوازن عقليّا في تلك السن المُبكّرة. والسبب في ذلك كلّه هو الرغبة في تكوين جيل منغلق على نفسه وعلى الغير المختلف دينيا ولغويّا وحضاريّا. بعبارة أخرى تكوين جيل تكوينا سياسيّا إخوانيّا قابلا للدعدشة. كل ذلك دون اعتبار التجاوزات الأخلاقية، بل الإجرامية أحيانا، مثلما شاهدنا في مدرسة الرقاب « القرآنية »، والتي دافع عنها بعض نواب حركة النهضة في البرلمان، لا لشيء سوى لأن اسمها يحمل عبارة : القرآن

المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة يُناضل منذ إنشائه من أجل فصل الدين عن السياسة، حفاظا عن الدين وعن السياسة. فالدين أمر شخصي ومُقدّس، أما السياسة فهي قيم وضعية كثيرا ما تكون مشوبة بالفساد وبالانتهازية. غير أن الدعوة لهذا الفصل يرى فيها بعض قصيري النظر عداءً للدين وهو عين الخطأ. وأتحدّى أيّا كان أن يجد في بيانات المرصد، التي يتجاوز عددها المائة خلال السنوات الثلاث من حياته، أي عبارة أو فكرة مناهضة للدين الإسلامي. لكنّ الرافضين لاستعمال العقل والحكمة يُصرّون على اعتبار الدعوة إلى المحافظة على الدين من التشويه السياسي هو « كفر ». وهذا شأنهم

أعود إلى بيان المرصد الذي جاء فيه بأنه « يدعو إلى غلق الجمعيات والكتاتيب والمدارس المُسمّاة ب »القرآنية » التي تقوم بأدلجة أطفالنا وشبابنا بأموال مشبوهة قصد تكوين إرهابيّي المستقبل، وخاصة منها جمعية « علماء المسلمين » المُصنّفة إرهابية في عديد دول العالم

لا جديد في هذا الموقف من المرصد منذ تأسيسه. غير أن ردود الفعل هذه المرة بدت مُتشنّجة وعنيفة

فأما الجامعة العامّة للشؤون الدينية التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، فإنها أصدرت بيانا تُعاتب فيه المرصد على استعمال عبارة « الكتاتيب » باعتبارها حكرا على وزارة الشؤون الدينية ولا يمكن حشرها مع المدارس القرآنية المشبوهة. وفي هذا الموقف مغالطة للرأي العام. فالكتاتيب موجودة في تونس عشرات السنين قبل بعث وزارة للشؤون الدينية، كما أن هذه العبارة تفيد لدى التونسيين كافة أصناف المدارس قبل سن الدراسة والمُتّسمة بالتعليم الديني البحت. ثمّ أن المرصد أوضح في بيانه أن المقصود هو تلك المؤسسات المشبوهة من حيث تمويلها ومن حيث محتوى برامجها، ويستغرب موقف هذه النقابة من اعتبار نفسها معنية بهذا البيان

وأما جمعية الأئمة، فإن بيانها العنيف لا يتضمّن التهديد والوعيد فحسب، وإنما يتضمّن تكفيرا واضحا باستعمال الآية  » يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ». وهو فعل مشين ليس مخالفا للقانون فحسب، وإنما يدل على أن كاتب هذا البيان منزعج من المطالبة بغلق المؤسسات المشبوهة على غرار مدرسة الرقاب ووكر القرضاوي بغطاء ديني. كما أنه يدل على أن التطرّف الديني ما زال موجودا لدى بعض الأئمة في تونس، وأن وزارة الشؤون الدينية ما زال ينتظرها عمل كبير في هذا المجال

أما « الشيخ » سعيد الجزيري صاحب إذاعة « القرآن الكريم » فقد قام بما يمكن ان اسمّيه « قَصّة عربي »، واستنتج، نعم استنتج من موقف المرصد أن هذا الأخير يعتبر أن « القرآن يدعو إلى الإرهاب ». نعم هكذا. قراءة مثيرة للضحك ولا تستحق الرد

كلام هذا الشيخ جاء في حصّة تلفزية بثتها قناة « الجزيرة مباشر » وهنا نقطة الاستفهام الكبيرة والخطيرة

قناة الجزيرة الإخوانية والمعروفة بعدائها لكل فكر تقدمي مستنير دخلت على الخط في الهجمة التي استهدفت المرصد  الوطني للدفاع عن مدنية الدولة . تدخّل غير بريء ويُثير عد تساؤلات

فكيف علمت الجزيرة أن هناك بيانا صدر عن جمعية تونسية يهمّ شأنا داخليا، وهي قناة تُقدّم نفسها على أنها تهتم بالقضايا الدولية الكبرى، فارتأت أن موقف المرصد التونسي من قضية الكتاتيب المشبوهة أهم من أزمة أكرانيا ومن أزمة الاحتباس الحراري في العالم ومن القضية الفلسطينية ومن الأزمات السياسية الكبرى التي تهم الناتو وتعصف بدول مثل ليبيا ولبنان

قد يكون هذا التدخل بإيعاز من جهات تونسية مُتطرّفة، وقد يكون بسبب تعرض المرصد إلى وكر القرضاوي في تونس، ومعلوم أن الجزيرة كانت البنت المُدللة ليوسف القرضاوي ولجمعية « علماء المسلمين » المُصنّفة إرهابية في عديد دول العالم

بقلم منير الشرفي