المرحلة تقتضي إنقاذ الهيئات «المستقلة» التي أصبحت ثقلا على نفسها وعلى الديمقراطية

عقارب الزمن لا تعود الى الوراء والنصوص القانونية لا تُعدّل بالأزرار لذلك ليطمئن الجميع ويدرك أن من بين أوكد الملفات أو ورشات العمل التي يجب فتحها على وجه السرعة دون تردّد أو تأخير، ما عرف بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة بـ«الهيئات المستقلة» وثمة من يضيف اليها «العليا» للتأكيد، منها ما هو مدستر ومضمّن ومحصّن في الدستور ومنها أيضا من وُلد من رحم نص قانون مؤقت أو دائم

وهذه «الكيانات» باختلافها تعيش منذ أمد، وحتى منذ التأسيس بالنسبة إلى البعض، وضعا داخليا ذاتيا صعبا في مجملها، ووضعا موضوعيا أصعب باعتبارها لم تعد فقط عبئا على نفسها وإنما عبءا على الديمقراطية ولا مناص من إنقاذها قبل فوات الاوان وإصلاح ما يصلح وتبديل ما لا يصلح

ويمكن المجازفة بالقول أن الأمر لا يتعلق بالدستور والقوانين ومجمل النصوص المحدثة والمسيّرة والمرافقة لهذه الهيئات، رغم وجود عديد الثغرات والنقائص والفراغات فيها، ولكن الأمر يتعلق بالتجربة في حد ذاتها وفي الانطلاقة المتعثرة على مقاس القوى السياسية ووفق المحاصصات وبمنطق الغنيمة فكانت الحصيلة مخيّبة للآمال وحتى في ما يتعلق بالمحكمة الدستورية التي يشتكي كثيرون اليوم من عدم ارسائها فإن وجودها في تقديرنا ماكان ليقلب الامور رأسا على عقب كما يقال في واقع تغيب فيه الارادة السياسية وتفرض موازين القوى الحيف والانحراف بالاشياء الجميلة 

وليس أدل على غياب الارادة السياسية أو بالاحرى وجود إرادة مضادة للدستور ولإرادة الشعب من تعثر ارساء أكثر من هيئة نص عليها دستور 2014 في بابه السادس (هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة مثلا) وغض الطرف عن استبدال الهيئات المؤقتة (هيئة حقوق الإنسان، هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، هيئة الاتصال السمعي البصري/الهايكا) والحفاظ على الهيئات القائمة وتعزيزها (هيئة الانتخابات) دون أن ننسى بقية الهيئات التي نشأت بنصوص قانونية أخرى قبل وبعد 2011 مثل هيئة النفاذ الى المعلومة وهيئة حماية المعطيات الشخصية وهيئة مكافحة الإتجار بالبشر وهيئة الوقاية من التعذيب وهاتين الأخيرتين قد تكونان الأفضل في المشهدية

ولعل المستفز اليوم هو تململ وتذبذب وحتى انحراف اصوات بعض هذه الهيئات أو بعض «قادتها» ومجانبتها للصواب في التعاطي مع الازمة التي تمر بها البلاد والتطورات المتسارعة الحاصلة بعد 25 جويلية 2021 وحتى قبله خصوصا وأن الكلفة المعنوية والوظيفية إن جاز القول الى جانب الكلفة المادية على المجموعة الوطنية جد كبيرة

إن هذه الكيانات هي في قاموس الديمقراطيات والتجارب المقارنة كما يحلو للبعض استخدامها، هي ركن رئيسي في التجربة التونسية والديمقراطية الناشئة والانتقال الديمقراطي، وعندما نكتب عنها وننقدها فذلك في باب التصويب والاصلاح، وليس من اليسير كما أسلفنا حذفها أو إغلاقها أو إحالة من فيها على البطالة لكن يمكن الاصلاح والإنقاذ

إنه لم يعد مستساغا ومنطقيا ومقبولا أن تتحدث هيئة منتهية الصلوحية ومضى زمن على نهاية ولاية من هو على رأسها أو في قيادتها عن الديمقراطية والتداول السلمي وحماية حقوق الإنسان والحريات العامة والتعديل وغيره من الكليشهات التي لم تعد مقنعة جراء سقوط الأقنعة

ويأتي المثال الصادم من الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تتحمل المسؤولية الأدبية على الأقل في ما نحن فيه من عبث في مختلف انتخاباتنا كما أبرزت ذلك محكمة المحاسبات

هذه الهيئة التي ترشح 8 من 9 اعضاء من قيادتها لخطة الرئيس فقط في يوم من الايام وتم توزير أحد أعضائها قبل مدة، تُوجّه لها اليوم الأصابع للاستفسار عن حقيقة ما صدر منذ مدة وليس الان فقط عن هذه القيادات التي كالت لبعضها تهما جد خطيرة وبلغ الأمر بالرئيس نبيل بفون إلى القول بأن الغاية من تصريحات عضوين في الهيئة «ترذيل المهمة والدور السامي لهيئة الانتخابات» وهدّد هؤلاء القادة بعضهم البعض باللجوء الى القضاء

واللافت بعد 25 جويلية ارتفاع اصوات في الهيئة مستميتة في نقد « الانقلاب على الدستور» واعتبار أن قرارات الرئيس قيس سعيّد « الصادمة وغير المتطابقة مع أحكام الدستور» من شأنها إرباك السير العادي لدواليب الدولة

وبعيدا عن مبدإ التحفظ وهو ضروري في تقديرنا يتساءل المرء عن السرّ في هذا الموقف الذي إن أحالنا الى شيء ما، فالاكيد الى التهم التي تبادلها قادة الهيئة في ما بينهم بخصوص الولاء لهذا الطرف أو ذاك في المشهد السياسي

إن ملف هيئة الانتخابات يجب ان يعالج بالسرعة القصوى استعدادا ربما لاستحقاقات قادمة قد تكون قريبة ولا نخال ان الرصيد القيمي وحتى التقني لهذه الهيئة يجعلنا نطمئن لها

نفس الملاحظة نسوقها حول «الهايكا» التي حان الوقت لتقييم تجربتها ووضع حد لخروج قيادتها عن الآجال القانونية لولايتها ولا نعتقد كذلك أن بمقدورها اليوم وبعد أن جربناها في التعديل والرأي المقارن ان تضيف شيئا وهي معذورة بعض الشيء بحكم غياب الارادة السياسية كما قلنا

إن المسألة جد شائكة وكلفة هذه الهيئات التي سعى بعض اصحابها صراحة لإسداء الخدمات للقوى السياسية كما حصل مع احد «الرؤساء» الذي وافق على الاشراف على تنظيم مؤتمر حزب سياسي ويتراجع بعد ضغط الاعلام الوطني وطيف من الرأي العام، كلفة باهظة ونزيف من المال العام دون أن ننسى مشكلات الحوكمة والتوظيف والانتدابات والمقرات والشراكات والتمويلات وغيرها

لقد اهتزت المصداقية صراحة وكانت تجربة هيئة الحقيقة والكرامة مخيّبة للآمال ولم يرض عنها في النهاية لا المستفيدون منها ولا المتضررون منها ولا غير المعنيين بها

ويتذكر الجميع كيف استقوت هذه الهيئات ببعضها على الدولة والمجتمع وحاولت بناء جمهوريتها وأسست ما اسمتها الرابطة الوطنية للهيئات المستقلة التي خمد صوتها لان المصالح على ما يبدو بدأت تتناقض والمسارات والمآلات تتضح وفي صورة استرجاع الدولة ومؤسساتها لعافيتها سيلتزم كل كيان بدوره في البناء الديمقراطي بعد الدمقرطة الداخلية بطبيعة الحال كي لا نعود الى مقولة أن فاقد الشيء لا يعطيه

بقلم: مراد علالة