كان السؤال حول تمويلات الجماعات الإسلامية من الأسئلة التي تلحّ على الكثيرين باستمرار نظرا لما تتمتع به هذه الجماعات من قدرة مالية هائلة تتيح لها إنجاز كل أنشطتها، بما فيها العالية الكلفة، بكثير من الأريحية، على خلاف ما تعانيه سائر الأحزاب والجمعيات، ولكونها من جهة أخرى شديدة التكتّم والسرية في هذا الموضوع بالذات، رغم أن قوانين البلدان التي توجد فيها هذه الجماعات غالبا ما تفرض، وإن نظريا، على الأحزاب والمنظمات والتنظيمات أن تكون مصادر تمويلها معلومة وموثّقة وقابلة لأن تتثبت منها مؤسسات الرقابة العمومية. لقد ظل هذا الملف منذ تكونت بمصر النواة الأولى لجماعة الإخوان المسلمين وإلى اليوم ومع كل الجماعات وما تفرع منها أو تلك التي نشأت مستقلة عنها في مختلف بقاع العالم، أكثر الملفات سرية ، وسوادا أيضا. فهو تنظيميا من اختصاص « المرشد العام » وحده، وهو لا يخضع حتى للقوانين الداخلية التي تضعها تلك الجماعات بنفسها، إذ هي مجرد نصوص وضعت لذر الرماد على العيون لا غير. ونظر لخطورة هذا الملف ولما يكتنفه من غموض وسرية ظل تمويل الجماعات الإسلامية موضوع تحقيق مستمر سواء من الصحافة الاستقصائية أو من الباحثين المختصين أو حتى من الأجهزة الأمنية
كثيرا ما تبدأ القصة بما قد يتداوله أعضاء من داخل الجماعة نفسها بعد أن يخرجوا منها عندما يكتشفون ممارسات على صلة بهذا الملف لا يمكن أن تصنّف إلا فسادا. بدأت قصة الإخوان في مصر مع تفطن أحمد السكري أمين عام الجماعة إلى أنها تلقت أموالا في الأربعينات من القرن الماضي وعلى وقع الحرب العالمية من البريطانيين والأمريكان عبر شركة قنال السويس الاستعمارية مقابل أن تستغل الجماعة شُعبَها التي تناهز الخمسمائة شعبة على امتداد المحافظات المصرية لإقناع المصريين بألا ينصرفوا إلى مساندة دول المحور انتقاما من استعمار الأنجليز لبلادهم، وقد أورد هذا الشاهد بعد انشقاقه عن الجماعة شهادة عندما تفطن إلى أن حسن البنّا، الذي كان يمسك مالية الجماعة بيد من حديد ولا يشرك فيها أحدا، تثبت أن الرجل لم يعجبه رفضه قبول الهبة التي عرضها على التنظيم ضابطان من الأنجليز مقابل ضمان الولاء المصري للحلفاء، فسعى منذ تلك الواقعة إلى التخلّص منه، ونشر عنه شائعات تطعن في ذمته، وهو ما جعله يعلن أن العديد من الوثائق والأدلة تثبت فساد البنّا ماليا بقبوله أموالا ليست متأتية من مصادر شرعية واستعمالها استعمالات غير شرعية وبإنفاقه أموالا غير معروفة المصادر ، وفي باب الردّ على اتهام البنّا له بحصوله على راتب من حزب الوفد مقابل ما ينشره في صحيفة « صوت الأمّة » قال السكري مخاطبا إياه « هل لي بعد ذلك أن أسأله- على فرض أن فريته هذه صحيحة- هل من الخير أن يعمل الإنسان فيأكل من كسب يده؟… هل هذا خير أم أن يعيش الرجل من الصفقات السياسية، والتضحية بإخوانه في الله وأعوانه المجاهدين الأحرار، والاتجار بدعوته في سوق المساومات الحزبية على حساب المبادئ والوطن مقابل متاع لا يبقى ولا يدوم؟ :
إن إمعان هذه الجماعات والجمعيات المرتبطة بها والتي تتّخذ من العمل الخيري ستارا في توخي السرية والتعتيم بشأن كل ما يخصّ مصادر تمويلهالا يفهم إلا في ضوء فرضيّتين: أولاهما أن مصادر التمويل هذه في حدّ ذاتها مشبوهة أو فاسدة أو غير قانونية ، ولكم دارت الأخبار حول المتاجرة في الممنوعات ، ويقصد بها عادة الأسلحة والمخدرات وأحيانا أنواع بعينها من الخدمات، مصدرا من مصادر التمويل، إضافة إلى ما يتداول بكثرة عن الارتهان ماليا لمموّلين من الداخل ومن الخارج، أفرادا ودولا، لهم مصالح مشبوهة، ثانيتهما أن هذه الأموال لا تستخدم في ما يجب أن تستخدم فيه إما باستحواذ أشخاص من داخل هذه التنظيمات عليها أو باستخدامها لتمويل أعمال تقع تحت طائلة القانون
من الواضح أن إحاطة الموضوع بالسرية والتعتيم وغياب المعلومة الدقيقة والموثوق بها من العوامل التي تجعله مثيرا للفضول ، فلو كانت هذه الجماعات تنشر ما تفرضه عليها القوانين والأنظمة من تقارير بشأن مصادر تمويلها ووجوه التصرف فيها، ولو كان ما تنشره-في حال فعلت ذلك- مقنعا ومنسجما مع المعطيات الواقعية التي يراها عموم الناس على الأرض لما ظلّ هذا الموضوع مثل »سرّ الغرفة السابعة » في خرافات الجدات، يظل يثير الفضول ويستدعي البحث حتى تنكشف حقيقته لتودي بذلك « الغول » ذي السلطة الخارقة، يجرّد من سلطانه وينقضى أمره حالما ينكشف سرّه
أما قصة الجماعة إياها بتونس فإنها انطلقت منذ أن عاين الشعب ما عاين من انقلاب حال أعيانها وظهور علامات الثراء الفاحش عليهم في وضع انهارت فيه أوضاع أغلب الفئات التونسية وتزايدت فيه بشكل مأساوي نسب الفقر المدقع، ومنذ أن اطّلع على ما ينفلت من المراقبة من حين لآخر ، مثل الأخبار المعروفة عن « الثروة » التي أنفقها حزب حركة النهضة للتعاقد مع مؤسسة عالمية من أجل تلميع صورته عالميا ومحليا، وما ذكره تقرير محكمة المحاسبات حول الانتخابات الأخيرة بشأن المصادر غير المعروفة للأموال المستخدمة في هذه الانتخابات، إضافة إلى ما يسري هنا وهناك من أحاديث ومن تلويح بوجود وثائق ستكشف لاحقا تغذي ما يتداوله عامة الناس بشأن ثروات خيالية يملكها بعضهم أو يتصرفون فيها نيابة عن حزبهم، دون أن يملك أحد القول الفصل في الأمر، ودون أي توضيخ من المؤسسات المعنية بالأمر في الدولة. فمتى يكون لهؤلاء شيء من المصداقية ليصرحوا بممتلكاتهم ويكشفوا مصادر تمويلاتهم؟ متى يكون للمؤسّسات الوطنية المعنية بالمراقبة من الاستقلالية والجرأة ما يمكنها من القيام بوظائفها في مراقبة التمويلات على أحسن وجه وفي محاسبة المتجاوزين؟ متى تصبح مقاومة كل أشكال الفساد، بما فيها المال السياسي غير المعلوم المصدر، أولويّة وطنيّة؟
بقلم زهية جويرو