كثيرا ما يدّعي الإخوان المسلمون سواء في حكومة محمد مرسي أو في الحكومات المتعاقبة التي ترأستها حركة الغنوشي أنّهم واجهوا بعيد الثورة تركة اقتصادية ثقيلة و انهيارًا اقتصاديًا واجتماعيًا غير مسبوق و أزمات بطالة، وفقرا وسوءا في توزيع الدخل، كما واجهوا انتشارا للفساد تمكّن من الاقتصاد وكان له تأثير في الإنتاج وانخفاض في الإنتاجية، وضعف معدل الاستثمار الضروري للنمو الاقتصادي، مما انعكس على ضعف الإنفاق على الصحة والتعليم بصورة تعتدي على حقوق الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في التعليم والرعاية الصحية، وغيرها من القضايا
وذاك هو ملخّص تعليلاتهم يرمون به في وجه كلّ ناقد ومتمحّص في تجربتهم في الحكم
لكن سؤال يحضرنا كلّما استمعنا إلى مثل هذه التبريرات الإخوانية: فإن كانت الأوضاع الاقتصادية بمثل هذا الانهيار بعيد ثورتي تونس ومصر وإذا كان الفساد قد عمّ جميع الميادين فلماذا كلّ هذا الحرص على الاستئثار بالحكم؟ والاستماتة في سبيل اعتلاء كراسي الدولة؟ هل هي مواطنة ولدت في قلوبهم فنمت وفاضت؟ هل هو نكران للذات في سبيل انقاذ شعب يكنّون لنسبة كبيرة منه الحقد ويتهمونه بخذلانهم والتمسّح على أعتاب دكاترة أكلوا قوته ومصّوا دماءه؟ في الحقيقة ودون إطالة أو انسياق وراء فرضيات هي من قبيل الرياضات الذهنية، نجيب بأنّ قصّة الإخوان مع الحكم هي بمثابة قصّة حبّ لم ير النور سوى في 2011.قصّة عاشت في وجدانهم ونسجوا منها أحلاما لم يشكّوا لحظة واحدة في أنّها حلم بل هي واقع ينتظر اللحظة الحاسمة ليتجسّد مشروعا، ويوم يولد ذاك المشروع فالتفريط فيه يعدّ من البدع والزيغ. وهذا ما عاشه إخوان تونس ومصر وإخوان المغرب
المهمّ من كلّ ما أبنّا هو أنّ التنظيم وفّق في كلّ تاريخ انتخابي أن يحافظ على مرتبته المتقدّمة بالنسبة إلى غيره من الأحزاب. غير أنّ الجديد في الانتخابات الأخيرة انتصاره على اتجاهين اثنين: اتجاه الوسطية والذي كان يمثّله الحزب المنتصر في 2014، وهو نداء تونس، والاتجاه اليساري بعد أن ضمّ انتماءات إيديولوجية صفتها « التشظّي الفكري »: من أحزاب عقدية مثل القوميين والبعثيين إلى أحزاب ذات طابع عمّالي، إلى أخرى شيوعية. ولذلك كانت حياة هذه الكتلة قصيرة لأنّ الأسباب التي تفرّقها أكبر من التي تجمع بينها
وصحيح أنّ ما غنمه الإخوان نسبي، لكن كانت لهم الفرصة في أن يستغلّوا هذه النسبة الطفيفة ليكونوا المرجع الأساسي سواء في السلطة التشريعية أو التنفيذية، وليتوفّر لهم حضور في الرئاسية أيضا
وهكذا أمكن للغنوشي وأتباعه أن يظلّوا ذاك الخطّ الناظم والثابت منذ 2011 وإلى يومنا هذا. تسع سنوات هي كفيلة بأن تفتح لهم أبواب المؤسسات، والغوص في جزئيات أسرار الدولة وأن يتحقق لهم ما ناضلوا من أجله طوال السنوات الماضية
تسع سنوات حكم فيها الإخوان مرّة بوجه مكشوف وأخرى من وراء حجاب، وجعلوا من السبسي حصان طروادة خاصة في السنوات الأخيرة. وتسع سنوات عاش فيها الاقتصاد فشلا وواجه مشاكل، وتقنعت فيها سياسة تونس بأوحش الأقنعة، ورميت البلاد بتهم ما كانت تعرف بها، مثل تصدّرها للدول العربية في نسبة الإرهابيين، وتهافت مكانتها الدولية فصارت دولة مكدّية وضعيفة. وباختصار تحوّلت تونس في 2019 إلى نموذج حيّ وعبرة لمن يعتبر مجسّما في فشل الإخوان إذا ما استأثروا بالحكم: من استحكام الفساد جميع المجالات، بل انتقل إلى مؤسسة شرعية لها مكانتها في مجلس النواب: وقد انتصب المهربون نوابا، وإلى جانبهم تصدّر محامون عن الإرهابيين. ومن شعب يعيش على وقع أنباء من الموات الجماعي نتيجة اهتراء البنى التحتية، وقد غابت الصيانة وغاب معها كلّ ضمير مواطني شعب يعيش رعبا يوميا خوفا على جراية من الغياب في آخر الشهر. وتلك هي حال تونس في خريف 2019 بعد أن عانت الفشل تلو الآخر. ومع ذلك، انتخب الإخوان من جديد رغم فشل تجربتهم ورغم غياب برنامج انتخابي يسعى إلى ترقيع الوضع المنهار اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا
لكن، بما أنّهم لا يتذكرون شيئا، ولا يتعلمون شيئا، يرتكبون نفس الأخطاء، وبما أنّهم مغرورون بقوّتهم لا يأبهون بما يفكّر فيهم بقية الناس، وظنّوا منذ أن غنموا التشريعيّ والتنفيذيّ أنّهم أصحاب هذه الأرض وأسياد من عليها يخطّطون والرعية تنفّذ، ويستشيطون غضبا كلّما علا صوت مخالف
وهذا ما وقع عندما سارعوا في الليل قبل النهار إلى تقديم مقترح في إنشاء صندوق زكاة، وقد ذهب بهم الظنّ أن لا معارض، ولا محتجّ. بما أنّهم سدنة الدين في هذه الأرض، واعتبروا أنّ كلّ ناعق بخلاف إنّما هو من أهل الزيغ
لكن ما لم يكن متوقّعا هو أن يرفض 93 نائبا ونائبة المقترح، ويسقط القانون، لتصاحب تعليقات من نوع » لم نتصوّر البتة أن يرفض مسلم قانون صندوق الزكاة » أو من نوع » ما تأكدنا منه الآن ان اكثر من 100 نائب غير مسلم فكل من ينكر فريضة يصبح مرتد (كذا) هذا حكم الشرع ومن دون مساحيق سياسية »، وهي جميعها مواقف تسعى إلى التكفير وتكريس خطاب الوعيد والتهديد عن طريق المقدّسات
في هذا السياق أعتقد أنّه لزاما علينا أن نسائل ما ذكره أصحاب الرجال والمفسّرون فيما يخصّ أحكام الزكاة، وذلك سعيا منّا إلى بيان أنّ الزكاة مصنّف عند الأصوليين ضمن ما يعتبرونه « غياب الحكم وعموم الّلفظ »؛ وعلى هذا الأساس أقرّ العلماء أنهم لم ينتهوا إلى قول جامع في المسألة، وأطلقوا العنان فيها إلى الاجتهاد. ولذلك كانت الأحكام في الزكاة متوتّرة إن لم نقل يناقض بعضها بعضا، وقدّم لنا فيها القدامى ديباجة من الحيل الفقهية تعتبر مخارج
ونبيّن ذلك انطلاقا من جملة من الملاحظات
إنّ قضية الزكاة منذ نشأتها الأولى، أي منذ السنة 11 من الهجرة كانت رمزا لتداخل السياسي بالديني: أجاب مانعو الزكاة أبا بكر حينما أمرهم بدفع الجزية إليه » إنما كنا نؤدي إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ لأن صلاته سكن لنا، وليس صلاة أبي بكر سكنا لنا، فلا نؤدي إليه »، واستندوا في تعليلهم إلى الآية 103 من سورة التوبة8 » خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم « . ومن هنا ندرك أنّ قتال أبي بكر مانعي الزكاة كان من باب اعتبارهم بغاة مثلهم مثل الخوارج. وألحقهم قياسا على المرتدّين. ويمكن القول إنّ علاقة عضوية نشأت بين المصطلحين، على تباعدهما فالأوّل من مشاغل الدنيا والثاني من مشاغل الاخرة، والأوّل يرسي علاقة بين الناس على أساس من الانتظام متّفق عليه، بينما الثاني فهو يقيم علاقة بين الله وخلقه وقوامها العبادة الخالصة، والتحم المفهومان منذ ذلك التاريخ ليصير الحاكم ظلّ الله في الأرض، وطاعته واجبة وجوب طاعة الله. فذابت شخصية الفرد في سلطة الواحد الأحد، وانعدمت معها إرادة الإنسان ليصير عبدا في الدنيا والآخرة
وتلك هي غاية الإخوان حتى تستقيم لهم حال الدنيا ويستقيم حكمهم ويتعاظم. لكن ما كان للأمور أن تسير في ذاك الانتظام بتونس، لأنّها دولة قائمة على أسس المواطنة منذ سنة 56وعليها نشأ الأفراد وبها تحررت المرأة وصارت فردا فاعلا لا مكمّلا، فطبيعيّ اليوم أن ترفض المجموعة الدخول إلى معبد الطاعة لأنّها ترى فيه كهفا أو مغارة تدفن فيها الأحلام والطموحات
ظلّ القدامى ، وإلى عصور متأخرة يبحثون عن حلول تقيهم الخضوع لأوامر الحاكم في نيابتهم في وجوه تصريف أموال زكاتهم، وذلك لأنّ النصّ سكت عن ذلك، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية لأنّ الأصوليين يعملون بقاعدة » دفع الضرر عن النفس »، ويعتبرون أنّ إيداع أموالهم في مؤسسة وبقدر يحدده الحاكم هو من باب الضرر لذلك يسقط وجوبا. يقول ابن العربي » سمعت أبا بكر محمد بن الوليد الفهري وغيره يقول : كان شيخنا قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني صاحب عشرات آلاف دينار من المال ، فكان إذا جاء رأس الحول دعا بنيه فقال لهم : كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وهذا مال لا أحتاجه فهو لكم ، ثم يخرجه فيحمله الرجال على أعناقهم إلى دور بنيه ; فإذا جاء رأس الحول ودعا بنيه لأمر قالوا : يا أبانا ! إنما أملنا حياتك، وأما المال فأي رغبة لنا فيه ما دمت حيا ; أنت ومالك لنا، فخذه إليك، ويسير الرجال به حتى يضعوه بين يديه، فيرده إلى موضعه ; يريد بتبديل الملك إسقاط الزكاة على رأي أبي حنيفة في التفريق بين المجتمع، والجمع بين المتفرق
كفانا إذن تجنّ على التراث، لأنّه منحنا لينا في التعامل مع النصوص، واستغلّ القدامى هذا اللين بينما سعى التقليديون اليوم إلى اعتماد مقاربة أحادية في فهم النصوص سعيا إلى ليّ الأعناق
محن كثيرة تعيشها مجتمعات إسلامية اليوم مع صناديق الزكاة التي أحدثوها، وأكتفي بذكر نموذجين، أردني وجزائري: فأمّا في الأردن فقد أحدث هذا الصندوق بلبلة في المجتمع ولكم في صفحات هذا الصندوق نماذج من المعاناة، وأكتفي بذكر نموذجين من التعليقات » ما حدى لحدى راحت القروش اتسرقت انا ابدا مسؤولي عن كلامي عندي قضايا اقل من ٥٠٠ ليش ما نستدت ما يقول غيرحسبا الله ونعم الوكيل في كل حرامي بهل بلد لا أوقاف ولا صندوق زكاه ولا وزير ماليه ولاغيرو ولا غيرو كلهم كذابين. » أو تعليق آخر » هاد الموضوع مع صندوق الزكاة ودائرة التنفيذ القضائي والمحاكم المختصة ولكن للأسف أذن من طين والثانية من عجين ما إلنا من بعد الله غير جلالة سيدنا هو صاحب المكرمة وهو الي رح يحلها وأنا مستعد كل يوم أروح أقدم اوراق لمكتب جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه أبو المكارم والسباق للخير ». صندوق بعث لتعطيل الحياة العامّة ولمزيد تعميق جراحهم لا غير
أمّا التجربة الجزائرية فهي تعاني من انعدام الثقة بين المزكّي وهذه المؤسّسة، وذلك لاقترانه بالفساد مشروع فاشل وغير نزيه فأموال صندوق الزكاة تذهب يمينا وشمالا والأموال لا تعطى لمستحقيها من الفقراء والمساكين والواقع مليء بأجندة الفساد في هذا الصندوق بداية من المسجد انتهاءً بالوزارة. وأكتفي أيضا بتقديم نموذجين من تعليقات الجزائريين على هذا الصندوق
« هناك الكثير من المحتاجين ممن أعرف، « لماذا أمنح زكاتي لصندوق ربما يقدمها لمن لا يستحق »، ثم يردف: هذا إن فرضنا أنها تصل إلى أشخاص لا إلى مشاريع كما قلت لك
« الملاحظ أن جميع المسرحيات الدينية في الجزائر تهدف الى بيع الوهم للشعب بغرض جمع المال على ظهره. صندوق الزكاة و((رحمة ربي)) « نموذجا
لم يعد الجزائريون يثقون في صناديق الزكاة، وهم يفضلون إخراج أموال الزكاة لفائدة الأقارب، أضف إلى ذلك عزوف رجال الأعمال عن صناديق الزكاة على الرغم من الحملة التي تطلقها الوزارة كل سنة. وفي السياق نفسه حثت وزارة الشؤون الدينية الأئمة على عدم الاعتكاف بالمساجد، ودعتهم للخروج إلى الميدان ومعايشة الناس مشاكلهم والخروج إلى الشارع والأسواق والطرقات
فهل إنّ الإخوان بتونس ارتأوا هذه السبيل بعد أن رفض صندوق الزكاة؟ وحلّوا شيخهم محلّ أبي بكر يسنّ الأحكام باعتباره وليّ أمر والتونسيين رعية عليها بالتزام السكن والطاعة؟؟
نحن نعيش اليوم مشهدا ثانيا من مشاهد إصرار الإخوان على تطبيق أجندتهم، فصحيح أنّهم بقوا حاضرين في الصورة المشهدية التونسية، لكنّه تبيّن أنّه حضور فسيفسائي لا يسهم سوى في إحداث نشاز في ألوان الصورة التي ترنو إلى التناغم، ولنكن متأكّدين أنّهم راجعون إلى المسألة وعن هدفهم لا يحيدون لأنّهم فرقة عقائدية، لا ترى في عنادها إصرارا على التسوّل والنهب بقدر ماهو في عقيدتها ثبات وإيمان
خير ما أختم به كلامي قول مهاتير رئيس ماليزيا في رسالته إلى شعبه : إنّ قيادة المجتمعات المسلمة، والحركة بها للأمام، ينبغي ألا يخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ. !!!فالمجتمعات المسلمة، عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية، التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ، أصيبت بالتخلف والجهل
الدكتورة نائلة السليني