القضاء أمام اختبار كبير واستقلاليته على المحكّ

الاختبار الكبير اليوم أمام السلطة القضائية والسادة القضاة هو رفع اللبس بين الزمن القضائي والزمن السياسي وبيان أن التقاطع، إن وجد وكان في الاتجاه الصحيح، فهو محمود ومطلوب، وإن كان مصطنعا وموجّها فهذا أكبر خطر يتهدّد الاستقلال والاستقلالية

*******

خلق رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021 أمرا واقعا جديدا، تماهى في بعضه مع المزاج الشعبي عندما جمّد جميع أعمال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن أعضائه وأقال رئيس الحكومة، لكن بعض التدابير الاستثنائية الأخرى أثارت الجدل وخصوصا تولّيه رئاسة النيابة العمومية وهو ما يعني جمعه في النهاية للسلط الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية وهي مسألة حرّكت مخاوف طيف واسع من المجتمعين المدني والسياسي، ولأنه مدرّس للقانون الدستوري، ويدرك أهمية الفصل بين هذه السلط وتوازنها، فقد ردّد مرارا وتكرارا التزامه بدولة القانون واحترامه للحقوق والحريات

إن الحديث عن دولة الحق والقانون يؤشّر نظريا لوجود دولة ذات مؤسسات ديمقراطية يعود فيها أصل الحكم بالفعل للشعب لكن شريطة تمتع المواطنين في هذه الدولة، دولة المواطنة، بالحق والقانون وبعبارة أخرى بالديمقراطية بكل متطلباتها

وقد كشفت تطورات الأيام القليلة الماضية أن مطبّات كثيرة موجودة في طريق الدولة وفي حياة مؤسساتها ومرافقها القائمة المنهكة، وهو ما يضاعف مسؤولية الجميع في إيجاد الوصفة المناسبة للخروج من / الاستثناء

لم يتردّد رئيس الجمهورية في التأكيد على احترامه لاستقلالية القضاء المُطلقة وقال ذلك في المباشر لرؤساء المجلس الأعلى للقضاء ومجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الاداري منذ يوم 27 جويلية 2021 كما شدّد أمامهم على النأي بالقضاء عن كلّ التجاذبات السياسية واتفق معهم على أنّ النيابة العمومية ستظلّ مستقلّة ولها نفس الضمانات الممنوحة للقضاء العدلي المستقل وأن العاملين فيها سيظلون يتمتعون بذات الحقوق ويمارسون عملهم في اطار ما يقتضيه القانون

ومن هذا المنطلق فإن أهل مكّة – السادة القضاة – الذين هم أدرى بشعابها كما يقال، هم المعنيون بالبرهنة على سلامة وتعافي سلطتهم القضائية واستعدادها للاضطلاع بدورها في إطار معادلة «الفصل والتوازن» ضمن دولة الحق والقانون فـ«القضاة مستقلون استقلالا تاما ولا سلطان عليهم غير القانون وسيمارسون عملهم دائما في إطار احترام الدستور والقانون والحقوق والحريات… في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ تونس» كما جاء نقلا عن الرئيس خلال هذا اللقاء

أجل إن المبادرة اليوم بيد القضاة والقاضي كما دوّن القاضي عمر الوسلاتي : لا يحتاج شهادة لإثبات نزاهته ونظافة يديه فأحكامه وسلوكه داخل المحكمة وخارجها وتطبيق القانون على الجميع دون انحياز لأي طرف من أطراف الدعوى ولأي سبب من الأسباب شهادته الحقيقية، والقاضي النزيه مهما كانت حملات التشويه يشعر كأنه غير معني بها تماما

ويضيف الوسلاتي بخصوص المعايير والشروط أن : القضاء مهنة ينتسب إليها أولئك الذين يؤمنون برسالتها ويدفعون من أعمارهم وصحتهم لأجلها الكثير! وعلينا أن لا نبرر ما حصل من إخلال بسلوك القاضي الأمين الشريف وان كانت الجريمة شخصية فإنها تكشف أزمة قيم عميقة في كل المجالات التي يحمل فيها المنتسبون إليها رسالة الإنسان وشرفه لذلك خُرّب الوطن وفسد

 
إن هذه الجرأة في توصيف الوضع الراهن للقضاة والرسالة المنوطة بعهدتهم في هذا الظرف الدقيق تعكسها أيضا مواقف هياكل المهنة التي هي عديدة ومتعددة لكنها للأسف تبدو غير متناسقة وغير متزامنة في اتخاذ المواقف الأمر الذي حفّز ربما بعض القضاة للتحرك بـ«وجوه مكشوفة» خارج الهياكل لإطلاق صيحات الفزع بشأن هواجس هي في الحقيقة هواجس جميع المواطنين في دولة الحق والقانون كما فعل : القضاة الـ45

لقد حذرت نقابة القضاة على سبيل المثال من خطورة ما اعتبرته : توظيف التجاوزات الفردية لأي قاض والتي توجب مساءلته جزائيا وتأديبيا واستغلالها لإرباك المؤسسة القضائية… والمس من نزاهة ومسؤولية بقية القضاة القائمين بواجبهم المهني والوطني بأمانة وشرف

بدورها تقول جمعية القضاة أن : إصلاح القضاء يمر بالضرورة عبر تنقيته من كل الأطراف التي تساهم في هز ثقة المواطن فيه

في غضون ذلك توجهت أغلب الانتقادات – انتقادات القضاة أفرادا وهياكل – الى المجلس الأعلى للقضاء ووقع تحميله مسؤولية «افتكاك صلاحياته من قبل السلطة التنفيذية» وكذلك التفقدية العامة بدرجة أقل

إن كثيرا من التفاصيل وحتى الحقائق لا تعني المواطن كثيرا والأهم من كل هذا في تقديرنا الإجابة عن أسئلة بسيطة تتعلق بالسبل الكفيلة بإقامة العدل وتأسيس عدالة مستقلة وناجزة وقضاء مستقل محايد ونزيه بعيدا عن الصراعات والتجاذبات والضغوطات، قضاء يحمي حقوق المواطنين وحرياتهم ويقي الوطن من كل الانحرافات والتجاوزات ويصون الدولة ومؤسساتها

ولعل الاختبار الكبير اليوم أمام السلطة القضائية والسادة القضاة هو رفع اللبس بين الزمن القضائي والزمن السياسي وبيان أن التقاطع، إن وجد وكان في الاتجاه الصحيح، فهو محمود ومطلوب وإن كان مصطنعا وموجها فهذا أكبر خطر يتهدّد استقلاله واستقلاليته

إن التقدم في ملف فساد أو تهريب أو إرهاب أو حتى في قضية حق عام جدّ هام، ولا نخال أن الإعلان عنه اليوم بالتزامن مع المتغيرات السياسية ينقص في شيء مهنيّة وجدّية طيف لا يستهان به من القضاة، قد تكون عطّلتهم إجراءات العدالة التقنية المعقدة مثلما قد تكون كبّلتهم الإرادة السياسية ووظّفتهم، والنتيجة واحدة، ثمة ماض للتجاوز وثمة خطوة إلى الأمام يجب البناء عليها وتحفيز القضاة ودعوتهم إلى استعادة سلطتهم

بقلم: مراد علالة