الغنوشي يناور في الزمن الضائع

أدلى رئيس مجلس نواب الشعب المجمّد ورئيس النهضة الإخوني راشد الغنوشي أمس بحوار مطوّل الى وكالة الأنباء التركية الأناضول، وقبله بيومين نُشر له مقال بموقع صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية سوّقته أيضا عديد وسائل الإعلام ومنها قناة الجزيرة القطرية، هذا ولئن لم يختلف المضمون في المحملين الإعلاميين الأجنبيين كثيرا فإن البارز فيهما جنوح «الشيخ» الى تكتيك الانحناء للعاصفة والتعبير عن الاستعداد لـ«التضحية» والطريف أنه انتقد في المقابل القنوات الإعلامية العربية التي تشيطن التجربة الديمقراطية التونسية، حسب رأيه وبشّرنا بأن مصيرها : الخيبة

واللافت ايضا أن التسويق للتضحية وتقديم التنازلات لا يقتصر على رئيس النهضة هذه الايام فقط، فثمّة من قيادات الصف الأول من ذهب في نفس الاتجاه وأبرزهم عبد اللطيف المكي القيادي البارز «المنافس» للشيخ وأحد الموقعين على عريضة المائة المنتقدة له والذي ذهب الى حد القول في حديث له لإذاعة اكسبريس اف ام الخاصة « نتفق مع رئيس الجمهورية قيس سعيد في مبادئ الحكم ونزاهته ونظافته وبالإمكان إيجاد حل مشترك» ويضيف : أدعو إلى عودة عمل البرلمان مع تعديل كل الأخطاء، وأؤكد عدم تمسك الغنوشي بمنصبه كرئيس للبرلمان، وأنه لا بد من الاتفاق على صيغة مقبولة لعودة عمل البرلمان

مثل هذه التصريحات تبرز وقع الصدمة التي تلقتها النهضة تحت مفعول تطورات ما بعد 25 جويلية 2021 والتي هي نتاج مسار طويل من التهرئة عرفته الحركة منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة مع دخولها للحكم وتواتر عثراتها فيه وتوجيه اصابع الاتهام، إن جاز القول، للشيخ المؤسس وتحميله مسؤولية ما حل بالتنظيم وبالبلاد والعباد

إن الرسائل المباشرة والمشفرة التي أصرّ الغنوشي على توجيهها من خلال الإطلالات الإعلامية إلى أكثر من جهة وفي مقدمتها رئيس الجمهورية قيس سعيد لا يمكن النظر اليها خارج السلوك السياسي التاريخي للجماعات الاسلامية بشكل عام والنهضة ومؤسسها بوجه خاص زمن الازمات والشدائد وهو سلوك التهدئة والانحناء للعاصفة كما اسلفنا وسلوك المظلومية والتقية والوعد والوعيد ايضا

وليس أدل على ما نقول «تواضع» الغنوشي هذه المرة في «الاناضول» التركية واعترافه بأن هناك بالفعل غضبا شعبيا من غياب المنجز الاقتصادي والاجتماعي للثورة ومن سلوك السياسيين جميعا والاعلان عن استعداد النهضة لـ«التضحية من أجل استكمال المسار الديمقراطي» بل هي «مفتوحة على المراجعة الجذرية لسياساتها» وهو ما يذكرنا بمزحة فصل الدعوي عن السياسي

وحتى في علاقة بالاتباع، يجيد الغنوشي طمأنة «خصومه» قبل مريديه ويطمئن الجميع هنا بالقول «سأحترم النظام الداخلي للحزب والذي حدد الرئاسة بدورتين تنتهي في المؤتمر العام للحزب قبل نهاية العام الجاري» أي انه لن يثقل كاهل التنظيم وسيتنحى عن خطة الرئيس دون توضيح مستقبله ودوره القادم فيه والذي يصعب جدا الاقرار بأنه انتهى أو أصبح ثانويا ففي الجماعات الاسلامية لا يمكن لمن هو في منزلة «المرشد» أن يتنحّى بهذه السهولة

ولا تقف رسائل الشيخ عند هذا الحد فهو متمسك بخطابه الذي لطالما سوقه في الخارج وطمأن به «الاصدقاء» في المجتمع الغربي بالترويج لما اسماه «الاسلام الديمقراطي»، اسلام يتصالح مع منظومة حقوق الانسان والديمقراطية الحديثة ومؤسساتها لذلك ينبه «القيادات السياسية» في حواره كي «لا تزج بالجيش والقضاء والأمن في مجالات الاختلاف السياسي» ويضيف أن : صورة البرلمان المغلق بدبابة ليست جيدة في تاريخ التجربة الديمقراطية الناشئة

ولأنه يدرك جيدا أن عجلة التاريخ لا تعود الى الوراء، سلم على ما يبدو بالامر الواقع واعترف بأنه «لا حلّ لتونس إلا بالحوار والتعاون حتى نحافظ على جذوة الحرية والثورة» ويرتكز الغنوشي على حقيقة يدركها القاصي والداني وهي أنه : هناك مجتمع مدني قوي في تونس ومنظمات فاعلة وطبقة سياسية واعية كل هؤلاء قد يختلفون هنا أو هناك ولكن تشبثهم بالحرية لا تراجع عنه

وفي باب التسليم بالامر الواقع دائما يقول الغنوشي :  نحن بانتظار إعلان رئيس الجمهورية عن خارطة طريق تبيّن تصوره للخروج من الأزمة الحالية، وقناعتنا أنه لا حل لمشاكل البلاد المعقدة إلا بعقد حوار شامل يلتزم الجميع بمخرجاته ويكون تحت إشراف رئيس الجمهورية

إن الحقيقة الوحيدة ربما التي نتفق فيها مع راشد الغنوشي والتي جاءت على لسانه ايضا هي أنه «من يراهن على نهاية الديمقراطية في تونس أو إنهائها واهم» والادلة كثيرة على ذلك عبر تاريخ تونس القديمة والحديثة التي لم يتأخر ابناؤها في الدفاع عنها وعن هويتها وطبيعتها المدنية التي هدّدها الاسلام السياسي وكانت الكلفة باهظة

هي مناورة في الزمن الضائع، والديمقراطية يبنيها الديمقراطيون في الزمن الديمقراطي الحقيقي الذي كانت النهضة وقيادتها بشكل خاص خارجه

بقلم: مراد علالة