العَنْعَنَة مُؤسسة إعلاميّة

في السنة الأولى بمعهد الصحافة، أذكر أنّي حضرت درسا تطبيقيّا مع الأستاذ رضا النجار حول وجوب توخّي الدقّة في نقل الخبر. كنا ثمانية طلبة في الفريق. أخذنا الأستاذ إلى القاعة المُجاورة لستوديو التلفزة بالمعهد، ودعا واحدا منّا فقط للستوديو. جلس الأستاذ أمام الميكروفون والكاميرا وأخذ يروي للطالب قصّة قصيرة دامت دقيقتين على أقصى تقدير. ثمّ طلب من ذلك الطالب أن يأخذ مكانه ويُعيد نفس القصّة على طالب ثاني تمّ جلبه من القاعة المحاذية حيث لا نسمع ولا نُشاهد ما يحدث في الاستوديو. ثُم دُعي الطالب الثالث ليسمع القصّة على لسان الطالب الثاني، وهكذا دواليك إلى أنّ تمّ تسجيل رواية الطالب الثامن

بعد هذه التجربة، التي دامت أقل من نصف ساعة، عرض علينا الأستاذ تسجيلات الثماني روايات. ولقد أصابتنا هستيريا من الضحك عندما لاحظنا التغييرات التي تحصل في سرد القصّة من طالب إلى آخر ومن رواية إلى أخرى، رغم بساطتها، حتى أن الرواية الثامنة تكاد لا تُشبه في شيء القصّة الأصلية

العبرة الأولى من هذه التجربة والخاصة بصحافيي المستقبل هي طبعا حثّ الصحافي على نقل الخبر بكل دقّة، بلا زيادة ولا نقصان وبدون أن يتضمّن الخبر رأيا أو إحساسا شخصيّا. أما العبرة العامّة فهي أن من يروي حادثة، حتى لو كان شاهدها بعينه، غالبا ما يُكسيها شيئا من خياله، حتّى إذا لم يمُرّ عليها سوى بضع دقائق. فما بالك بالقصص التي تُروى عن أحداث مرّت عليها سنوات، وربّما قرون، وخاصّة منها تلك التي تُنقل عبر عديد الأشخاص

هنا، يُطرح الإشكال الكبير الذي يُعاني منه المسلمون في تعاطيهم مع الدين، وأخصّ بالذكر منهم أولئك الذين يرفضون التفكير وإعمال العقل في كل ما يتعلّق بالمسائل الدينيّة، فتراهم يتشبّثون بمبادئ وقواعد ما أنزل الله بها من سلطان. فتراهم يُؤمنون إيمانا راسخا بأفكار، منافية حتى للقرآن أحيانا، اعتمادا على « حديث » رُوي عن ثماني مصادر، يكون المصدر الأول فيها في بعض الحالات شخص وُلد بعد وفاة الرسول وادّعى أنه سمع الرسول يتحدّث. وهي أحاديث « حقّق » فيها شخص يُدعى البخاري وقدّمها للمسلمين على أنها « صحيحة »، علما بأن هذا الشخص فارسي، أي أن لغته الأم ليست العربية، وعاش 250 سنة بعد الرسول

هذه الأحاديث التي يشكّ في صحتها كل عقل سليم تُمثّل مع الأسف الشديد مصدرا أساسيّا لتعاليم الدين عند أغلب المسلمين، ونراهم يعتبرون أن ضحيّة العيد فرض ديني والحال أنها عادة لا علاقة لها بالإسلام، وأن صلاة التراويح في رمضان فرض، والحال أنها عادة أرساها عمر بن الخطاب سنوات عديدة بعد وفاة الرسول، كما نجد كتبا صفراء عديدة تروي تفاصيل عذاب القبر الذي لا يُوجد أي ذكر له بتاتا في القرآن، الخ

تعرّضت إلى الأخبار التي تأتينا من المصادر المشبوهة والمُتعدّدة في المجال الديني لأنها تمسّ بالمعتقدات وبالمُقدّسات التي تكتسي أهميّة بالغة في حياتنا اليوميّة. لكن حياتنا اليومية لا تقتصر على المُقدّسات، بل أن المقدسات يُمكن أن تُصبح ثانوية أمام المشاكل الحياتية التي تعترضنا يوميّا كمواطنين، مثل الحريات، والعدل، والأسعار، والبطالة، والإنتاج، والاستثمار، والثقافة، والتعليم، والصحة، والبيئة

كل هذه المجالات الحيويّة تأتينا عنها الأخبار عن طريق « العنعنة »، أي أن مصادرها مُتعدّدة ومشبوهة. وكثيرا ما تصلنا الأخبار عنها مُشوّهة ومطبوعة بشخصيّة الراوي وبقدراته على الفهم وبميولاته السياسية. فنجد العاقل يرفضها في انتظار العثور على صيغة رسمية ومقبولة للخبر من مصدره الأول

وهنا أصل الداء، فلقد أصبح التونسيّون فاقدين للمصادر الموثوقة للخبر، وأصبحوا بالتالي عاجزين عن مشاهدة الواقع بالوضوح اللازم. فلا رئاسة الجمهورية ولا رئاسة الحكومة ولا سائر المسؤولين في مختلف المجالات يُعلمون الرأي العام بما يحدث في مؤسساتهم بوضوح وبدقّة. بل أن المصدر الوحيد للخبر أصبح في الأشهر الماضية ما يقوله رئيس الجمهورية لزائريه، بما يشوب كلامه من غموض، حتى أن كلام الرئيس أضحى مصدرا لمزيد الشائعات والتأويلات. ذلك أن « هم » و »هؤلاء » في الخطاب الرئاسي تُؤوّل حسب المتلقّي. فالمقصود ب »هم » هو حزب النهضة أحيانا، والحزب الدستوري الحر أحيانا أخرى، واتحاد الشغل حسب تأويل ثالث، والقضاة حسب تأويل رابع، الخ

نحن إذن في حضرة خطاب وحيد، مُبهم في كثير من الأحيان، يتداوله الإعلام كل حسب قراءته، ويتداوله الناس، كل حسب ميولاته وانتظاراته

أما إذا انتقل « الخبر » عبر مسالك مُتعدّدة فيُصبح في آخر المطاف مُثيرا للضحك، أو مُثيرا للحزن لما أصبح عليه الإعلام والإخبار في بلادنا في هذا الزمن الرديء

فهل أن نور الدين البحيري على وشك الموت مثلما تتداوله بعض الأوساط، أم أنه يُقيم في ظروف أشبه ما يكون بفندق خمسة نجوم حسب أوساط أخرى؟ وهل أن القضاء يقوم بعمله على أحسن وجه حسب بعض الجهات أم أنه يُطبّق إملاءات حزب سياسيّ بعينه حسب جهات أخرى

الأسئلة عديدة ومُحيّرة. وليس لنا إلّا الالتجاء إلى العنعنة بما فيها من غموض وتغليط إلى أن يُفرّج الله كربنا

منير الشرفي