بعيدا عن دروس الاتصال المؤسّساتي والاتصال السياسي وجميع ضروب العلم والفلسفة وحتى الفقه والأدب والشعر، لا يمكن التغاضي عما جاء في بلاغين أو بيانين أو مجرد «خبرين» منفصلين صادرين عن مؤسستين سياديتين ببلاد هما رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس نواب الشعب وبفارق زمني قارب السبع ساعات حول نفس الحدث
والحدث هو استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيد لرئيس البرلمان راشد الغنوشي يوم الجمعة 29 ماي 2020 وهو لقاء يأتي بعد لقاء سابق عرضي بمناسبة تقبّل ساكن قرطاج للتهاني بعيد الفطر، وهو يأتي ايضا في سياق لم يعد خافيا عن أحد أنه مشبع بـ«التدافع» والنزاع على الصلاحيات بين الرجلين وعشية جلسة «ساخنة» لـ«الحوار» أو «مساءلة» ساكن قصر باردو حول ما يسمى بالديبلوماسية البرلمانية
وقد قرأنا في الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية الجمل الثلاث التالية : استقبل رئيس الجمهورية قيس سعيد اليوم الجمعة 29 ماي 2020 بقصر قرطاج رئيس مجلس نواب الشعب السيد راشد الغنوشي. وتناول اللقاء الوضع العام بالبلاد كما تم التطرق إلى جملة من القضايا الدولية وخاصة منها القضايا الإقليمية الراهنة
وهذا الخبر الشحيح «الخشبي» بلغة علوم الإعلام والصحافة، لا يسمن ولا يغني من جوع وقد لا يعتبره بعض المختصين خبرا لأن استقبالات رئيس الجمهورية وعادات عمله اليومية التي انتخب من أجلها لا تستوجب الإخبار عنها إلا متى تضمنت جديدا يشبع حاجة المواطن للمعلومة ويقطع أمامه فرضيات التأويل والبحث عن مصادر أخرى خصوصا عند بروز روايات وتسريبات سواء كانت مكملة او مخالفة للخبر الرسمي
وبالفعل، عندما نطالع ما جاء في الصفحة الرسمية للبرلمان، نكتشف ان راشد الغنوشي ذهب بعيدا في الكشف عن «تفاصيل» اللقاء لغاية في نفس يعقوب كما يقال لأنه يعلم جيدا ما نشرته رئاسة الجمهورية وكأنه بهذا الشكل يميط اللثام عن «تعتيم» مارسته
ويصطدم القارئ للتدوينة البرلمانية ان جاز القول بـ «حقائق» لا ندرك صراحة الوجاهة في اخفائها من لدن رئاسة الجمهورية حيث نكتشف عنوانا للخبر عن التوافق حول الموقف مما يجري في الوطن وخارجه : « تفاعل إيجابي وتوافق حول تشخيص الوضع العام في البلاد ورفض دعوات الفوضى» وهذه الكلمة بالذات لا أثر لها في تدوينة قرطاج
ثم نقرأ في التفاصيل أو الرسائل المباشرة والمشفرة ما يلي : « شهد اللقاء الذي جمع رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد برئيس مجلس نواب الشعب راشد خريجي الغنوشي الذي انعقد مساء اليوم الجمعة 29 ماي 2020 بقصر قرطاج توافقا في الرؤى حيال تشخيص الوضع العام في البلاد وسبل التعاطي معه، وخاصة في ما يتعلّق برفض الدعوات إلى الفوضى ومخطّطات الإجرام واستنكارها والتنديد بموجة الحرائق وكلّ محاولات تعطيل المرفق العام والإضرار بالأمن العام للبلاد
كما تمّ التأكيد على استعداد مجلس نواب الشعب للتفاعل الإيجابي مع المبادرات التشريعيّة بما يستجيب لتطلعات المواطنين ويُساعد في خروج البلاد سريعا من التداعيات التي خلّفتها جائحة كورونا على جميع المستويات وخاصة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وفي هذا الإطار تمّ التأكيد على ضرورة تضافر الجهود لخدمة الفئات الضعيفة وتحسين ظروف عيش المواطنين في المناطق والجهات المهمّشة والمنسيّة
وأثبت هذا اللقاء، الذي جرى في أجواء من الود والصراحة، زيف ما تروّجه بعض الأطراف المشبوهة من صراع داخل الدولة وبين مؤسّساتها، وأنّ الاختلاف في وجهات النظر ممكن في إطار احترام الدستور ومبدإ وحدة الدولة في خياراتها وتوجّهاتها الكبرى كما تمّ التطرّق إلى جملة من القضايا الدولية وخاصة منها القضايا الإقليمية الراهنة
وتمّ الاتفاق في نهاية هذا اللقاء على عقد جلسات دوريّة لتدارس الأوضاع وتوحيد وجهات النظر وخطط العمل المستقبليّة للنهوض بمناعة الوطن وخدمة لكلّ فئات الشعب
ولقد حرصنا على نقل ما أراد رئيس مجلس نواب الشعب ايصاله للداخل والخارج حتى يكون القارئ على بينة من ان أمورا كثيرة بحاجة للمراجعة في اتصال رئاسة الجمهورية أولا، وثانيا أن ما سبق واشّرنا عليه من «صراع» مضرّ بالتجربة التونسية بين «الرئيسين» ما يزال قائما بل ان الكثير من المؤشرات تنذر بتصاعده في قادم الايام رغم ان الغنوشي بشرنا باللقاءات الدورية القادمة بينهما وأحاطنا علما بالاجواء الوردية التي جرى فيها اللقاء
وقد حرص راشد الغنوشي على وضع قيس سعيد امام الامر الواقع ليس فقط بنقل ما توافقوا حوله بخصوص «الدعوات الى الفوضى» فقط وانما «الاوراق» التي هي بيد رئيس البرلمان ورئيس النهضة ومربع الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية، فالمبادرات التشريعية مرتبطة بموازين القوى في البرلمان وبما أن ساكن قرطاج بشرنا في وقت سابق بمناسبة المعايدة الشهيرة للتونسيين باستعداده لتقديم مبادرة تشريعية وبما انه لا يمتلك مبدئيا أصواتا نيابية داخل المجلس فالتشريع في قبضة النهضة وحلفائها علاوة على علاقات الحركة المتينة والمميزة وخصوصا لرئيسها مع جهات اقليمية ودولية لاعبة في الداخل وفي الجوار
هو فصل آخر من الصراع بين «الرئيسين» أو كما يقول البعض الصراع الجديد بين الشيخين، قد يعوّض الصراع الذي كان قائما بين الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي بين 2014 و2019 لكن الثمن في تقديرنا سيكون بكل المقاييس باهظا أكثر مما تكبدنا في الولاية السابقة ونعيش تداعياته اليوم دون أن ننسى ان التاريخ لا يعيد نفسه الا في شكل مهزلة
بقلم : مراد علالة