النهضة انتهت بيدي مؤسّسها
خسر راشد الغنوشي أغلب أوراقه في الداخل، بل في داخل الداخل وركب رأسه رغم سكرة الموت السياسي وانتفض بما تبقى لديه من أنفاس ليستجدي الدعم ممن كانوا الى زمن قريب من داعميه في المشهد الدولي متجاهلا أن الفاعلين في الساحتين الاقليمية والعالمية بالخصوص يتحرّكون وفق المصلحة الخاصة وعلى قاعدة موازين القوى الداخلية والأهداف المرجوة
وفي الوقت الذي اختلفت فيه مضامين إطلالات «رموز» الجماعة في الاعلام الوطني والدولي وعكست صورة «رقصة ديك مذبوح»، اختار رئيس مجلس نواب الشعب «المجمّد» ورئيس النهضة الملاحقة اليوم قضائيا بشبهة التمويل الأجنبي إطلاق نداءات الاستغاثة والرسائل المباشرة والمشفّرة في عدد من وسائل الإعلام الأجنبية وحرص على ألا يقتصر الظهور في الوسائل الحصرية التقليدية التي يعود أغلبها الى الشقيقة قطر والصديقة تركيا وإنما شيئا من الإعلام الغربي
في هذا السياق، تكلم الغنوشي الى «بلاد الفرنجة» كما يقال، بلاد حقوق الانسان والحريات العامة، وهدّد عبر وكالة الأنباء الفرنسية بعودة الإرهاب والنزول للشارع إذا لم يتم الاتفاق على الحكومة وعودة البرلمان واستدرك أنه مستعد لكل التنازلات في سبيل عودة الديمقراطية
للتذكير ليست هي المرة الاولى التي يقع فيها التلويح بـ «زحف» الأتباع، فقد سبق وأن توعد كثير من قيادات الحركة بالمواجهة وبـ«سحل» المعارضين وتهديدهم بـ «الانتحاريين»
هذا وقد انبرت قيادات في التنظيم في إعادة كلام الشيخ الى سياقه ومحاولة إقناعنا بمقاصده «السلمية» وقالت الناطقة باسم مجلس شورى النهضة سناء المرسني ان «اللجوء الى الشارع حتى في اشكاله السلمية هو اخر توجه يمكن للنهضة ان تسلكه.. وان ما يهم الحركة هو البحث عن حل سياسي ضمن الأطر الدستورية والديمقراطية» وخلصت الى أن الغنوشي لم يدع لا للعصيان ولا للعنف ولا لاقتحام البرلمان
وبعد فرنسا، انتقل «الشيخ» الى ايطاليا عبر صحيفة «كورياري ديلا سيرا» ليهدّد جارتنا في شمال المتوسط ويحذرها من نمو الارهاب والانزلاق للفوضى وإقدام نصف مليون تونسي على محاولة الهجرة غير النظامية (الحرقة) اذا لم تساعدنا ايطاليا على استعادة الديمقراطية حسب قوله ! ويمضي الغنوشي أكثر في الاستجداء والتحريض على الحكم في تونس بالقول أنه «إذا استمر الانقلاب واضطرت الشرطة إلى اللجوء إلى الوسائل الدكتاتورية بما في ذلك التعذيب والاغتيالات، فلا أستبعد ذلك على الإطلاق.. سنفعل كل ما في وسعنا لتجنب ذلك، لكن لا يمكننا ضمان عدم حدوثه»، ليس ذلك فحسب يعلن النفير ويقول : سنقاوم بكل الوسائل السلمية والقانونية.. سنناضل من أجل عودة الديمقراطية.. يجب أن يفهم قيس سعيد أن البرلمان يجب أن يعود إلى مركز آليات صنع القرار في الدولة
نفس هذا المنطق نجده لدى المقرّبين من الشيخ والمحسوبين عليه والمتسببين كما يقال في ما حلّ بالتنظيم على غرار القيادي نور الدين البحيري الذي يقسم أن ما أقدم عليه رئيس الجمهورية قيس سعيد: انقلاب ويجب مواصلة النضال السلمي لإسقاطه وإفشاله
وبدوره لم يدخر باعث مركز الإسلام والديمقراطية في واشنطن والقيادي في الحركة رضوان المصمودي جهدا في تأليب الإدارة الامريكية ولوبيات المال والاعلام والسياسة في بلاد العام سام لممارسة الضغط، ودوّن على صفحته الخاصة أنه «يجب ايقاف هذا الانقلاب قبل ان يدمّر البلاد و الديمقراطيّة.. في إطار الديمقراطيّة، يكون الحوار و الإصلاح ممكنًا.. بدون ديمقراطيّة، كلّ شيء يصبح مستحيلا» وكأنّ الأمريكان والغرب عموما في انتظار اكتشافه للديمقراطية. ولم يقف عند هذا الحد بل لوّح بتوظيف الشارع وكتب متحدّيا أن الحركة جندت قبل خمسة أشهر فقط 200 الف شخص في أكبر مظاهرة في تاريخ تونس حسب زعمه وهي مستعدة لتنظيم مظاهرة أخرى أكبر منها
هذا وجه العملة الأول أما الوجه الثاني وهو الأصدق في عكس صورة الجماعة اليوم فهو ذاك الوجه الذي جسّده وعبر عنه سمير ديلو و علي العريض وحتى سيّد الفرجاني وخليل البرعومي وهو من القيادات الشابة وغيرهم
لقد انتهت النهضة التي عرفناها بعد 2011، النهضة التي انتقلت من جبهة الجهاد ضد الدولة الوطنية لإسقاطها وتدميرها وإقامة دولة الخلافة كما قال الأمين العام السابق حمادي الجبالي، الى جبهة الجهاد من أجل التغوّل في مفاصل هذه الدولة الوطنية والظفر بغنائمها تحت يافطة الاسلام الديمقراطي، وكان الفشل الذريع أولا في تحقيق التونسة والفصل بين الدعوي والسياسي والقطع مع الاخوان المسلمين، وثانيا في بناء الديمقراطية وتحقيق استحقاقات الثورة المتصلة بالعدالة الاجتماعية والانتصار للحرية والكرامة
نهاية النهضة تؤكدها اعترافات قادتها كما اسلفنا، صقورا وحمائم وخصوصا السجنيين وأبناء المحرقة التي تسبب فيها الشيخ المؤسس راشد الغنوشي وأدارها بالأزرار من الخارج
وحين يقول سمير ديلو أنه يشعر بالقهر ويشدّد على ضرورة أن يعرف قادة التنظيم حجمه بعد 25 جويلية 2021 وأن يتساءلوا لماذا تمّ حرق مقراته فقط في كامل تراب الجمهورية فهو يكشف أنه ثمة وعي داخلي بهول ما حدث ويعزوه الى الشيخ الغنوشي الذي لا يستمع الى اصوات مخالفيه وهم كثر الان ويزدادون عددا وتجذّرا في النقد أمام التعنت و«الشيطنة» التي يتعرضون لها ولنا في تجربة الموقّعين على عريضة المائة خير دليل
وفي سابقة هي الاولى من نوعها ربما، يتكلم على العريض بنبرة مختلفة موازية لنبرة الشيخ والمقرّبين منه ويعترف بان النهضة تلقّت رسائل الشعب واستخلصت الدروس والعبر ويضيف على صفحته الخاصة ان النهضة : ستراجع وتصوّب أخطاءها وتعالجها بصدق وأمانة
وغير بعيد عن هذا «التواضع» يكشف القيادي سيد الفرجاني أن النهضة ستكون في المعارضة البنّاءة شرط ضمان ديمقراطية كاملة
وصرّح القيادي الشاب محمد خليل البرعومي المكلف بالاعلام في الحركة بأن النهضة تحتاج إلى وقفة تأمل ومراجعة حقيقية وجدية
وحتى الوافدون الجدد على التنظيم ساءهم ما حلّ به وهاهو محمد القوماني يقر بأنه على قيادة النهضة المسارعة للاعتذار للشعب الذي منحها اكثر من فرصة
إن نهاية النهضة لا تعني نهاية الاسلام السياسي والتعبيرات السلفية والاصولية المتشددة ببلادنا في تقديرنا، فطيف لا يستهان به ممن خرج الاحد انتصارا للرئيس قيس سعيد كان من ناخبي النهضة، ولا يقتصر حضور الاحزاب الدينية على النهضة فقط وانما ثمة أحزاب أخرى في نفس الفلك، وبالتالي لا يمكن الإقرار بدخول مرحلة جديدة مستقرة آمنة ما لم تتضح عديد المسائل التي يرتبط بعضها بما سيقوم به الرئيس قيس سعيد في علاقة بمحاربة الفساد والارهاب بالخصوص وفتح الملفات الدقيقة المتعلقة بالاغتيالات السياسية واستهداف المؤسسة العسكرية والأمنية والمدنيين والاستقواء بالخارج، ولعلها هي الملفات الحارقة والحقائق المزعجة التي تؤرق «الشيخ» وتجعله يصرّ على المكابرة رغم بعض أصوات الحكمة حوله
بقلم مراد علالة