السلطة الرابعة على وهن و في وضع كارثي..! «و أهل الحكم» يتمادون في اللامبالاة

من تابع «حفلة» الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) يوم 06 جانفي 2022 بمناسبة حصولها على شهادة المطابقة المرجعية للحوكمة في المستوى الأوّل، أو يستحضر وقائع اللقاء التحضيري للمؤتمر الوطني للسياسات العمومية في قطاع الإعلام الذي نظمته النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والهايكا يوم 20 ديسمبر 2021، أو يطالع المنشور الحكومي عدد 19 المؤرخ في 10 ديسمبر 2021 الخاص بقواعد العمل الاتصالي الحكومي، يذهب به الظنّ إلى أن حال السلطة الرابعة ببلادنا على ما يرام وبأن مكوّنات هذه السلطة سليمة وفاعلة وساهرة على السير العادي لقطاع الإعلام بكل محامله، بل والاستشراف والإبداع فيه بشكل قد يدخلنا بوتقة التجارب المقارنة ونصبح مثالا يحتذى به

للأسف، وبمرارة شديدة وبعيدا عن منطق جلد الذات أو المبالغة، لم يشهد الإعلام منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة وَهَنًا يضاهي ما هو عليه اليوم علاوة على المخاوف المشروعة من خسارة هامش الحرية الذي حقّقه الشعب التونسي لنفسه ولإعلامه وإعلامييه وهو ما تصدح به الهياكل المهنية – المنهكة – وعديد القوى المدنية والسياسية، وتنصبّ المآخذ في مجملها على حالة الارتباك القانوني والسياسي والمؤسساتي والمهني والاحترافي الذي لم يعد ممكنا السكوت عنه إذا ما أردنا الاستمرار في تبنّي شعار إنقاذ التجربة الديمقراطية في تونس فلا ديمقراطية دون إعلام حر وتعدّدي ومهني حقيقي ينعم العاملون فيه بحقوقهم المشروعة ويستعيد بفضله المواطنون ثقتهم في الإعلام الوطني وفي الدولة برمتها

إن السياق الذي نحن بصدده كارثي بكل المقاييس، أزمة سياسية ودستورية واقتصادية واجتماعية وقيمية تزداد خطورة كل يوم مع تفاقم الأزمة الصحية، وفي نفس الوقت يتسم المشهد الإعلامي الوطني بوجود تلفزات «مغلقة» كقناتي نسمة والزيتونة، وأخرى تعمل تحت «الضغط العالي» إن جاز القول على غرار قناتي حنبعل والحوار التونسي اللتين تخلصتا من «السياسة» وتفرّغت أخرى لبيع «الماعون»، وإذاعات تمرّ بصعوبات اقتصادية، ومؤسسات إعلام مكتوب مهدّدة في وجودها تظل أبرزها للأسف مؤسسة دار «لابريس الصحافة» العريقة، دون أن ننسى تواصل توقف الانتدابات وعجز مؤسسات كثيرة على تأمين الأجور

إن الجميع متّهمون في تقديرنا ويتحمّلون المسؤولية بدرجات بطبيعة الحال، ليس في ما وصلنا إليه فقط وإنما في توقّفنا وتعثّرنا، ولا نريد أن نقول عجزنا في إيجاد الحلول ومباشرة تنفيذها

وهنا، صحيح أن الوضع صعب أكثر مما يتخيّله البعض، لكن وجود إرادة حقيقية للإصلاح والإنقاذ والانتصار للدولة المدنية ولقيم الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية التي من بين سلطها المستقلة والقوية والفاعلة والضامنة للتوازن سلطة الإعلام، شرط ضروري لتلمس بداية طريق النجاة

وفي سلّم المسؤوليات، لا يختلف اثنان في الإقرار بأن منظومات الحكم المتعاقبة منذ 2011 والتي وجدت أمامها إحقاقا للحق تركة ثقيلة، لم تنجح في وضع سياسة عمومية للإعلام ببلادنا وكان همّ من حكم تونس خلال العقد الأخير وضع اليد على الإعلام وإعادته إلى بيت الطاعة وحصل التفنن في ضرب السلطة الرابعة لتطويعها بأساليب تجاوزها الزمن بما أن الثورة التكنولوجية كسرت الحواجز وكشفت المستور

وفي ظل تشريعات بحاجة ملحّة للمراجعة وحذف متسرّع وغير مبرّر لمؤسسات رسمية تشرف على الإعلام مثل الوزارة أو وكالة الاتصال الخارجي أو المجلس الأعلى للإعلام والاتصال الذي كان المطلب العقلاني للمهنة ضمان استقلاليته وإضفاء الصبغة التقريرية على عمله، ساد الارتجال وتفاقم لدرجة صارت فيه مؤسسات الإعلام العمومي تسير بقدرة قادر إن جاز القول، إما بمسؤول «مؤقت» كما هو الحال في مؤسستي الإذاعة والتلفزة أو بالنيابة كما هو الحال في وكالة الأنباء

..
لقد تفاقمت المشكلات، القديمة الجديدة، وعدنا إلى نقطة الصفر وربما تحت الصفر في ملفات بعينها كالإشهار والتوزيع والبث والدعم والهيكلة والتشارك في تسيير القطاع ولم يعد واضحا بالنسبة إلى هياكل المهنة وأصحاب المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة «المخاطب» الرسمي في السلطة، في قرطاج أو القصبة أو غيرها

ليس ذلك فحسب، ماذا يمنع «السلطة» من وضع المسؤول المناسب في المكان المناسب كما يُقال حتى باعتماد الآليات والأعراف القائمة على علاّتها كأحجية «الرأي المتطابق»؟

والرأي المتطابق يقودنا هنا إلى الحديث عن هياكل المهنة، وإذا كنّا نتفهم حدود النقابات وأحلام قياداتها ومشاريعها فإن الوقت حان وقد يكون فات لطرح موضوع التعديل بجدية

إنه لمن الطرائف اليوم أن تنال الهايكا مثلا تتويجا متّصلا بالحوكمة في المستوى الأول وبعض قادتها في مواقعهم من 2013 إلى 2022، فهل هذه هي الحوكمة؟
إن المسؤولية الرئيسية في النهاية تعود إلى من هو في الحكم بالأساس، ولا ندري أسباب تماديه في نهج اللامبالاة، أو التعامل مع الأمر الواقع وكأنه قضاء وقدر، أو كأنه ثمة ذوات محصّنة، أو ثمة نيّة مبيّتة لتأبيد حال الوَهن لإحكام السيطرة والقبضة الحديدية على القطاع بشكل يجعل الجميع يستسلم ويهجر الميدان أو يدخل «طوعا» بيت الطاعة في زمن لم يعد يستوعب مثل هذه البيوت

بقلم: مراد علالة