الرجل الثالث في جهاز النهضة الخاص : التاريخ السري لرضا الباروني

في أعقاب الكشف عن الجهاز الخاص لحركة النهضة، تحول مصطفى خضر، أحد رجال التنظيم، إلى أشهر وجوه العمل السري للحركة الإسلامية، لكونه معتقلاً على ذمة القضية. لكن خضر لم يكن إلا جزءًا صغيراً من تراتبية هرمية ممتدة للتنظيم، على رأسها راشد الغنوشي، أمير الحركة المؤبد، وتحته العشرات من الوجوه غير المعلنة، على الأقل حتى هذه اللحظة. ومن بين هؤلاء الضابط السابق في الجيش التونسي، رضا الباروني، والذي كشف بعد وقوع خضر في أيدي الأجهزة الأمنية، بصفته المسؤول المباشر عن خضر ، وواسطته للقيادة العليا، بحسب اعترافات خضر نفسه أمام قاضي التحقيق المكلف بالقضية
رضا بن محمد بن حميدة البارونى عمل بالجيش الوطني برتبة ملازم أول، وخلال سنة 1987 أدين في قضية تُعرف بمجموعة الإنقاذ الوطني، وهي أيضاً كانت ترتبط بمحاولة للانقلاب عسكرياً على الرئيس الأسبق «بن على»، إلا أنه غادر البلاد إلى إسبانيا، حيث حصل على اللجوء السياسي بالخارج متنقلاً بين إسبانيا وألمانيا، وصار بعد الثورة مباشرة، عند الإعلان عن تأسيس حزب حركة النهضة، عضواً بالمكتب التنفيذي بها يشرف على إدارة الشؤون المالية والإدارية.غير أنه، وبعد تورطه بهذا الملف وكشف علاقته المباشرة مع هذا الجهاز، قررت حركة النهضة إبعاده عن الواجهة، ولذلك أصبح منذ مؤتمر 2016 عضواً بالمكتب التنفيذي الجديد لحركة النهضة، مكلفاً بالتعبئة، بعد أن كان مكلفاً خلال مؤتمر 2012 بالشئون المالية والإدارية
هذه المعلومات التي كشفتها هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، باقتضاب شديد، كشفت للمرة الأولى عن الأدوار التي كان – وربما مازال – يقوم بها رضا الباروني، والتي لم تبدأ اليوم أو أمس، بل منذ أن كان الباروني شاباً يافعاً في ثمانينات القرن الماضي، وقد دخل لتوه ثكنات الجيش التونسي متدرباً ثم ضابطا. فخلال تلك الفترة، بدأت علاقة الشاب القادم من الجنوب التونسي تتوطد بحركة الاتجاه الإسلامي، ليجد نفسه مع منتصف الثمانينات عضوا في التنظيم الخاص الأمني – العسكري للحركة، والذي سيعرف لاحقاً بالمجموعة الأمنية.لم يعتقل الباروني في ملف المجموعة الأمنية، بعد أن وصلته معلومات من داخل جهاز الشرطة العسكرية بأن اسمه على لائحة المطلوبين، فغادر البلاد سراً.
استقر الباروني في إسبانيا. في 3 أكتوبر 1988، تقدم بطلب للحصول على حق اللجوء، والذي رفض من قبل وزارة الداخلية في عام 1990، لكن عاد وتقدم بطلب استئناف للمحكمة الوطنية، التي اعترفت بوضعه كلاجئ في عام 1991، وهو ما أكدته المحكمة العليا في عام 1994. ومع بداية التسعينات، وخروج حركة النهضة من البلاد مع مواجهة فاشلة مع النظام، سيراوح الباروني في إقامته بين فالنسيا الإسبانية والسودان، حيث استقر العدد الأكبر من عناصر النهضة الذي هربوا من البلاد، مواصلاً العمل الأمني والعسكري في صفوف الحركة، وحيث تجمع كل أغلب أعضاء التنظيم العسكري والأمني لحركة النهضة
في إسبانيا سيشرع الباروني في مرحلة جديدة، سيكون خلالها رئيساً للمركز الثقافي الإسلامي في فالنسيا، والذي تديره وتراعاه جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وسينجح من خلال هذا المركز في توسيع شبكة علاقاته بالحركات الإسلامية، السياسية وحتى الجهادية. وخلال إقامته هناك، ربطته علاقات وطيدة بأبي مصعب السوري، القيادي السابق في تنظيم القاعدة، قبل انضمامه للقاعدة، وبعد أن استقر في إسبانيا قادماً من سوريا على إثر تجربة جهادية فاشلة ضد نظام الرئيس حافظ الأسد، تلت حوادث حماة، وتجربة قتالية في أفغانستان ضد الوجود السوفياتي، وذلك ضمن مجموعات الأفغان العرب
شاهد من أهلها
وقد قدم أبو مصعب السوري شهادته حول قصة المجموعة الأمنية، التي كان الباروني أحد أعضائها، والتي قال إنها قد بلغته «مشافهة من بعض الذين خططوا لها وأشرفوا عليها من أولئك الإخوة الضباط»، أعضاء المجموعة. وقد نشر أبو مصعب هذه الشهادة في كتابه «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» -الجزء الأول. ويضيف في موضع آخر قوله: ووفق ما رواه لي أحد أصدقائي من الضباط الذين أشرفوا على الإعداد للانقلاب، فقد كان البرنامج محكما ًوطموحاً، واستطاعوا أن يقيموا صِلات بدول مجاورة وأن ينسقوا برنامجهم على مستوى عال
وفي إسبانيا التقى أبو مصعب السوري لأول مرة براشد الغنوشي، وذلك خلال إحدى زياراته إلى هذا البلد، ووقع بينهما جدل حول الانتخابات. ويقول السوري في هذا الصدد: وقد عبر الغنوشي، أحد منظري هذه المدرسة في كلمة له أثناء جلسة عشاء جمعتني به شخصيا في مدريد، بقوله : نحن ارتضينا بالديمقراطية والصناديق حكما بيننا كإسلاميين وبين خصومنا من الأحزاب العلمانية في تونس. فإذا الشعب اختارنا حكمنا بالإسلام، وسمحنا للكفر بأن تكون له أحزابه وصحفه لأن الإسلام لا يخشى عليه من الحرية. وإذا الشعب اختار الأحزاب العلمانية، رضينا بحكم الكفر لأن الله تعالى قال: لا إكراه في الدين! … وسهرتنا تلك مسجلة على كاسيت
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والهجمات الإرهابية التي طالت محطة قطارات أتوشارينفي، بالعاصمة الإسبانية مدريد في مارس 2004، بدأت السلطات الإسبانية مراجعة جذرية لطبيعة الوجود الحركي الإسلامي في البلاد، على مستوى التنظيمات والأشخاص. وفي 6 ماي 2005 تلقى الباروني رسالة من الإدارة العامة للشؤون السياسية بوزارة الداخلية الإسبانية لإعلامه بنزع صفة اللاجئ السياسي عنه، باعتباره منتمياً لمنظمة إرهابية على علاقة بزعيم تنظيم القاعدة ، أسامة بن لادن. وفي 22 جويلية 2005 قرر مجلس الوزراء الإسباني نزع صفة اللاجئ السياسي عن رضا الباروني. واعتمد القرار على تقرير للمركز الوطني للاستخبارات جاء فيه أن الباروني «يشكل خطراً على الأمن الوطني، وذلك لقيامه بين 1992 و1997 بتنسيق تدريب عناصر إرهابية في معسكرات بالسودان»، ويشير التقرير الصادر عن المركز الوطني للاستخبارات في مدريد بتاريخ أبريل 2005 إلى أن: الباروني كان على علاقة مع الخلايا التونسية التي تم تفكيكها في إيطاليا بمدن ميلانو وبولونيا وبخلية ألمانيا، والذين كانوا يجهزون لإعادة إطلاق الجهاد الإسلامي في تونس، وحجزت لديهم وثائق ومقاطع فيديو حول كيفية تصنيع المتفجرات
ليدخل الباروني في نزاع قضائي مع السلطات الإسبانية وشبه إقامة جبرية في البلاد، لكن المحكمة العليا الاسبانية رفضت في نوفمبر 2008 طلب التظلم الذي تقدم به الباروني ضد نزع صفة اللاجئ السياسي عنه. لكنه بقي في فالنسيا بتصريح إقامة مؤقت، لأنه لم يكن يملك أي وثيقة سفر تخوله الخروج من إسبانيا
بعد العودة إلى تونس في 2011، سيتحول الباروني إلى أحد كبار الفاعلين التنظيميين داخل حركة النهضة. وسيمنح من طرف راشد الغنوشي صلاحيات واسعة وثقة ونفوذاً أكبر، حتى أنه سيؤتمن على خزينة الحركة ومشاريعها الاقتصادية داخل البلاد ،وخاصة خارجها في الدول الأوروبية، حيث تحتفظ الحركة بالعديد من المشاريع الاقتصادية الخدمية وبشبكة واسعة من الأعمال نسجتها خلال حوالي ربع قرنها من المنفى، وتعتبر أحد أهم مصادر تمويلها وتمويل شبكة جمعياتها الدينية والخيرية اليوم

من كتاب أحمد نظيف