الدين في الدولة المدنية

لغط كبير يثار هذه المدة حول موضوع علاقة الدولة بالدين كما يتصور أن يكون في الدستور المنتظر وكما يراه التونسيون بوجهات نظرهم المختلفة . وفي قراءتنا لذلك الجدل اتضح لدينا أن الحدة التي يتسم بها النقاش حول هذا الموضوع وأن التراشق المتبادل بتهم تتراوح بين الاغتراب والأصولية إنما يعودان في الأغلب إما إلى جهل أو في أحسن الأحوال سوء فهم أو إلى تعمد تشويه الأفكار والمواقف بدوافع سياسية إيديولوجية بعيدة عن مقتضيات المعرفة الموضوعية وعن الاختلاف في وجهات النظر المقبول أصلا في كل الأحوال إلا إذا تجاوز شروط حرية التفكير والتعبير ليصبح ضربا من الطعن الفاقد لكل مصداقية في وجهات النظر الأخرى المخالفة لما نعتقد وما نتصور. أم المسائل التي نراها إما مجهولة أو مساء فهمها فأولها مسألة الفصل بين الدين والدولة المعبر عنها بمفهوم الدولة المدنية في مقابل الدولة الدينية، أو الدولة العلمانية. فكثير من عموم الناس يذهب في اعتقادهم أن ذلك يعني آليا أن تكون الدولة معادية للدين متنكرة له منصرفة عنه كل الانصراف. والحال أنه لا أحد ممن نظر لهذا المفهوم ذكر ما قد يفهم على هذا النحو، كما أن مختلف التجارب المعروفة في الواقع تنفي تماما مثل هذا التصور. فالدولة المدنية منفصلة عن الدين من جهة القوانين التي تمثل عقدا اجتماعيا ينظم العلاقات بين المواطنين وبينهم وبين مؤسسات الدولة وهو عقد يقتضي التسوية بين جميع المواطنين في القانون وأمام القانون دون أي اعتبار لأي مكون له علاقة بما يعتقده الشخص أو بما له صلة بعرقه أو أصله أو جنسه أو انتمائه الجهوي أو العائلي أو غير ذلك ، وإنما تتحدد على أساس معطى واحد هو المواطنة ، وهذا النمط من التنظيم التعاقدي على قاعدة ما يتفق عليه المواطنون وما يسنونه بإرادتهم الحرة أو بواسطة ممثلين يختارونهم بحرية كذلك هو أرقى النظم التي عرفتها البشرية والتي مكنتها، وإن نسبيا، من تجاوز الكثير من محن الماضي ومشكلاته عندما كانت النظم الدينية على سبيل المثال سببا في جرائم عانى منها المختلفون دينيا ودفعوا من دمهم ثمن ادعائها الدفاع عن حكم الله كما كانت سببا في حروب دموية عانى ومازال يعني منها الكثير من البشر. لا شك أن القواعد التي تقوم عليها الدولة المدنية أو العلمانية تبدو مثالية ولم تتحقق تحققا تاما في الواقع بدليل أن أعرق الدول العلمانية أو اللائكية لا تخلو إلى اليوم من ممارسات التمييز ضد المختلف دينيا، إلا أن علينا أن لا نغفل حقيقة أن تلك الممارسات التمييزية تظل فعل أشخاص من جهة وهي خارجة على القانون وقابلة للتجريم من جهة أخرى. ولذلك فإن هذا لا يحجب أن الدولة المدنية تظل الدولة الأقدر على الالتزام باحترام حقوق المواطنة لكل مواطنيها وبكل اختلافاتهم. وفي المقابل انظروا في كل الدول التي تقحم الدين في القوانين التي تنظم العلاقات بين المواطنين وفي تلك التي تنظم علاقاتها بهم وستجد ضروبا من التمييز المقنّن أي المشرعن بالقانون، من صنف التمييز بين الذكور والإناث الرائج في قوانين البلدان الإسلامية المستمدة من الفقه، والتمييز بين المنتسب إلى دين الأغلبية وصاحب الدين الأقلي الذي لا تخلو منه حتى دساتير تعلن انتساب دولتها إلى المدنية، وحتى بين الملتزم بالضوابط الدينية اعتقادية كانت أو سلوكية حياتية وذاك الذي لا يقنعه الالتزام بها

أما المسألة الثانية التي تبدو من مداخل سوء الفهم والجدل العقيم فهي مسألة علاقة الدولة المدنية العلمانية بالدين. إذ يعتقد البعض عن حسن نية أو عدم معرفة ويشيع آخرون عن قصد وبهدف التشويه أنها تناصب الدين العداء وتقاومه وتعمل على نشر الإلحاد وهذا ادعاء باطل لا أصل له سوى محاولة الطعن في هذا النظام. إذ الدولة المدنية لا تعادي الدين ولا تقاومه بل هي الضامنة بحكم القانون لحرية الضمير والمعتقد بما تشمله من حرية الممارسات الدينية عبادات وشعائر ومن حرية الاعتقاد فيما يراه كل مؤمن من فرائض دينه ومن عقائده ومن حرية التعبير عن ذلك الاعتقاد بشتى أشكال التعبير المتاحة طالما أنها لا تطعن في عقائد الآخرين ولا تحدّ من حقهم في ممارسة حريتهم حيث تقف وظيفة الدولة المدنية في هذا المستوى عند حدّ ضمان ممارسة كل المواطنين لهذا الحق المتمثل في حرية المعتقد وحرية الضمير أو الحرية الدينية. كما تقف وظيفة الدولة المدنية في علاقتها بالدين عند حدود تنظيم أماكن العبادة قياما على شؤونها وحماية لها من أي توظيف ينحرف بها عن وظيفتها الأصلية، مثلما يدخل ضمن مجال وظيفتها هذه تنظيم التعليم الديني عندما لا تكون هناك مؤسسة دينية تفعل ذلك كما هو الشأن في المجال الإسلامي، حيث على الدولة أن تنظم برامج التعليم الديني منعا لأي تعارض محتمل بين نمط الوعي والثقافة المواطنية التي تعمل على بنائها وبين ذينك اللذين قد ينشرهما تعليم ديني لا يصدر عن المؤسسات التعليمية المختصة التي تقوم عليها وتنظمها رسميا الدولة

تظل المسألة الثالثة سؤالا يطرحه كثيرون : ما موقع الدين إذن في مجتمع تقوم عليه دولة مدنية؟ أليس للدين أي مكانة في المجتمع؟ وهذا السؤال مهم في رأينا لأن الإجابة الموضوعية والدقيقة عليه كفيلة برفع الكثير من الالتباسات وهي إجابة تبدو لنا على غاية من البساطة رغم ما يبدو على السؤال من تعقيد. إن الدين ، شأنه شأن كل العناصر الثقافية من اللغة والعادات والتقاليد وأنماط العيش والتفكير والفنون والآداب …، عنصر بان للشخصية الفردية وللشخصية القاعدية العامة، لذلك فلا أحد يستطيع أن ينكره إنكارا كاملا أو يخلعه عنه كما يخلع ثوبا، والدين بحكم موقعه هذا يؤدي عددا من الوظائف الوجودية والنفسية والاجتماعية لا يمكن أن يؤديها غيره من العناصر الثقافية، لذلك ظلت الأديان قائمة ولم تفقد شيئا من وظائفها تلك ولا من بريقها في أكثر الدول لائكية، وظل المواطنون فيها يمارسون دينهم بمطلق الحرية، ليكون الدين عاملا يوثق العلاقات الاجتماعية ولا يكون سببا في الصراعات والفوضى، ومصدرا للراحة والطمأنينة والسلام لا للتوتر والعنف اللذين نراهما في الوضعيات التي يصبح فيها الدين موضوع صراعات إيديولوجية وتجاذبات سياسية. فضلا عن ذلك يمثل الدين منظومة رمزية يؤدي من الأدوار ما تؤديه غيره من المنظومات الرمزية وتشبع الحاجات الرمزية لإنسان لا يستطيع أن يعيش دون رمزيات في عالم تسكنه الرموز. وهو في وضعه هذا لا يختلف عن الفنون ورمزياتها والآداب وجمالياتها وعن كل ما يستمد منه الإنسان المعنى ويضفيه على وجوده وحياته وأعماله. لذلك لا نرى داعيا لما يروج من خوف على الدين في دولة تعلن بوضوح مدنيتها في مستوى القوانين والمؤسسات، إنه في الحقيقة خوف أولئك الذين لا يملكون لهم سلعة يروجونها في تجارتهم السياسية ويستثمرونها في مقاولاتهم من أجل الفوز بالسلطان سوى الدين، وأولئك تجارتهم خاسرة

بقلم زهية جويرو