الديمقراطية ليست ناقة نركبها ونقول لها : زَعْ

كان يا ما كان، في قديم الزمان، شعب يعيش في أمن وامان، واطمئنان…كان يبحث عن المعرفة…وعن التقدّم …كان يحتضن الندوات…والملتقيات…والاجتماعات الهامة…لم يكن ينقصه غير بعض من الحرية والديمقراطية …لكنه كان يتقدّم كل سنة خطوات وخطوات…وينافس بعض البلدان…التي لا تزال إلى يومنا هذا ترزح تحت نير الجهل والتخلّف والاستبداد والطغيان، رغم ثرواتها الطبيعية …كنّا نشعر ببعض الضيق من تخلفنا على مستوى الحريات والديمقراطية…وكنّا ندرك بأن الوقت يمضي بسرعة وأنه علينا أن نترك شيئا لأجيالنا القادمة…فأجدادنا قاوموا الاستعمار… ونحن ومن جاؤوا قبلنا قاومنا التخلّف وأتممنا بعض البناء بأن قضينا على الجهل وعلى الأوبئة وعلى الأميّة…وكنّا نسأل بعضنا البعض هل سنقدر يوما على أن نكون بلدا ينعم بالديمقراطية كما في الدول الأخرى المتقدّمة…كما في أمريكا وفي أوروبا…ما الفرق بيننا وبينهم

هل ما يصلح لهم يصلح لنا أيضا…ماذا ينقصنا لنكون مثلهم بعد أن أتممنا الجهاد الأصغر والجزء الأكبر من الجهاد الأكبر…هل سننجح لنكون مثلهم…هل سنصبح دولة ديمقراطية كما نشاهده عند البعض من الدول التي حين نزورها نشعر بأننا في عالم آخر وفي كوكب آخر…ثم جاء اليوم الذي تغيّر فيه حالنا ليس كما نريد وكما كنّا نتمنّى بل كما البعض يريد وكما كان هذا البعض يتمنّى…فتغييرنا لم يكن برضانا…ولم يكن كما نريد ونأمل…بل جاء ليخرّب ما بنينا…ويعيدنا إلى سنوات الجهل والتخلّف والفتنة الكبرى…واكتشفنا أن الفرق بيننا وبين من كنّا نأمل لنكون مثلهم كبيرا وشاسعا …فاليوم فقط بدأنا نشعر حقّا بتخلفنا وجهلنا وسذاجتنا…فكم سألنا أنفسنا هل هم بشر أفضل منّا لكي ينجحوا في إقامة نظام ديمقراطي…نعم هم كانوا ولا يزالوا أفضل منّا … فالديمقراطية عندهم ليست مجرّد شعارات يرفعونها كذبا على شعوبهم بل هي ممارسة ورفض للقطيعة بين كل عربات الحاضر والماضي …فالديمقراطية هي قاطرة تجرّ كل عربات التاريخ والحاضر لتصل محطّتها الأهم « المستقبل »…فديمقراطيتنا نحن اليوم بنيناها على القطيعة ورفض القديم …ونسينا أن رفض القديم هو رفض للحاضر أيضا، وإلغاء تام لمستقبل يجمع كل العربات…الديمقراطية ليست فقط مجلس شعب وصندوق اقتراع…الديمقراطية مؤسسات وآليات وإرث حضاري كبير

الديمقراطية عقلية…فماذا جنينا فعلا ممن يسمونها « ديمقراطيتنا » …لا شيء غير مئات من الجثامين …ومئات من المفقودين في المتوسط …وعشرات الآلاف من الهاربين من جحيم بلد فقد هويته…وملايين من الفقراء….ومئات الآلاف من العاطلين ….ومئات الآلاف من الهاربين من جحيم مدارس فقدت هويتها…نحن اليوم خراب وخردة بناء اسقطه أبناء بُناته…لأننا لم نع حقّا ما تعنيه « الديمقراطية »….فالديمقراطية ليست ناقة تركبها وتصرخ في وجهها « زَعْ » فتذهب بك أين تريد…ديمقراطيتنا وافدة لا تختلف كثيرا عن الأوبئة والفيروسات والانفلونزا الوافدة…وإلى يومنا هذا ونحن نبحث عن لقاح يخرجنا مما نحن فيه…فتونس اليوم هي البلد الوحيد الذي يتمّ نهبه باسم الديمقراطية فنهب البلاد اليوم هو نهب « حلال »…فمنذ متى كانت « الديمقراطية » كلمة تخرج من أفواه القتلة والمجرمين …ومنذ متى كانت صناديق الاقتراع تفرز الحمقى والأغبياء والمجانين

سلامة حجازي