الحَوَلُ الرئاسي

للخطاب قواعده و فنونه. و أبسط قواعد الخطاب و أشدّها بداهة أن يواجه المخاطِبُ مخاطَبه إذا خاطّبه. فهذه المواجهة الحضوريّة مجسِّدة، من ناحية، لمبدإ طبيعيّ من مبادئ آداب الحوار و شرط بديهيّ من شروطه، وهي دالّة، من جهة ثانية، على الحدّ الأدنى من ثقة المتكلّم في نفسه و في وجاهة ما يتفوّه به، وهي، من جهة ثالثة، سلاح مسرحيّ تكتيكيّ يتسلّح به المخاطِب للتأثير في سامعه يشدّ انتباهه و يقيّد عليه أنفاسه و فكره و وجدانه فإن لم ينفع فيه الكلام بأجراسه و معانيه أجهزت عليه النظرة الثاقبة و العين السّاحرة. و كذلك كان بورقيبة، مثلا، إذا توجّه إلى النّاس بالخطاب. أمّا رئيس الدّولة الحالي قيس سعيّد فما انفكّ منذ تسلّمه الرئاسة و في الأيّام الحرجة خاصّة يعتمد في الخطاب أسلوبا غريبا لا أرى مستشاريه يصوّبونه فيه أو ربّما لا أراه ينصاع لتصويباتهم إن صوّبوه. فخطابه في أغلب حالاته متوجّه إلى مخاطَّبَين على الأقلّ : مخاطَب حاضر قد يكون معنيّا بالخطاب و كثيرا ما لا يكون معنيّا به، و مخاطَب غائب، من الخصوم، هو المقصود بالكلام في الغالب تنوب عنه الكاميرا و تتقدّمه بينما يختفي هو وراءها و الرئيس ينظر إليه من وراء الكاميرا فيرى هو الرئيس و لكنّ الرئيس يتخيّله و لا يراه في معادلة غير متكافئة بين رئيس مكشوف و مرؤوس ليس تحت السّيطرة لا ندري ما هي هيئته عند تلقّي الخطاب و لا ما هي ردود فعله لأنّ الاتّصال المباشر به مفقود و النظر إليه عيني في عينه محجوب. فترى رئيس الدّولة لا يرى مخاطبا واحدا بل يرى مخاطَبَين : ضيفه الحاضر المسكين المتمسمر المتجمّد في مكانه و عين الكاميرا و ترى بصره متذبذبا ما بين زوايا نظر متعدّدة، ضائعا، متوحّدا لا يستقرّ على نقطة و لا يستقرّ على فكرة و ترى الكاميرا متذبذبة و ترى مشهدا إعلاميّا منقطع النّظير لم أر مشهدا رسميّا أو غير رسميّ أغرب منه. ما هكذا يا سيادة الرئيس تُدار سياسة الإعلام و الخطاب و الكاميرا في عصر الملتميديا. و أعجبه أنّي لا أرى مخلوقا يعرّض بهذه المنهجيّة الخرقاء التّي لا تزيّن رئيسنا في حضرة التونسيين و لا تزيّن بلادنا بين الأمم. و باختصار فإنّ الخطاب مواجهة أو لا يكون. و إن لم يكن فهو ارتباك و ارتعاش و حوَلٌ و إخفاق

الدكتور الهادي جطلاوي