الحزب الدستوري واليسار والإخوان

يروج قول مفاده إن الحزب الاشتراكي الدستوري مكّن الإسلام السياسي من الظهور والعمل على مقاومة اليسار في الجامعة وقد دأبت الكثير من الكتابات التي تناولت الموضوع على ترديده ومن كثرة لَوْكه أصبح مستقرا في الأنفس كبديهة لا مجال لدحضها والحال أن المسألة يتم تناولها بهذه السهولة بقصد تبرير عجز اليسار عن مواجهة خصومه فيفتش لنفسه عن عكاز يزيح المسؤولية عن كاهله وبيان ذلك

1) في منتصف سبعينات القرن الماضي كان اليسار حاضرا بقوة في الجامعة بقيادات تاريخية استطاعت أن تعطي للحياة في الجامعة بعدا يساريا ظهر في المظاهرات ضد أمريكا ومساندة قوى التحرر في العالم وغير ذلك، في تلك الفترة بالذات لم يكن هنالك طالب إخواني واحد في الجامعة ولكن كانت الجماعة تشتغل في المدارس الثانوية وكنت شاهدا على تلك الفترة حيث انتشرت المساجد في المعاهد الثانوية وابتدأت دار الراية في طبع المنشورات الإخوانية البخسة الثمن لسيد قطب والمودودي وغيرهما بعد سنوات قليلة انتقل التلامذة إلى الجامعة وأصبحوا طلبة، لم يكن للإخوان أيامها من بضاعة يروّجون لها سوى العداء للشيوعية والماركسية والغرب سبيلا للانتشار والديمومة بعد اصطفافهم في الصف المعادي للإتحاد السوفياتي الذي ظهر في الكم المهول من المنشورات التي كانت تؤجج نار العداء بين الإسلام والكفرة كما أن مجلة المعرفة لا يخلو منها عدد من مقال أو أكثر يؤكد هذا المعنى، أيامها لم يتجاوز أفق الحركة مقاومة الغرب الملحد والمحافظة على الهوية الدينية من التفسخ وقد وجدت في مجلة الأحوال الشخصية وإصلاح التعليم وغيرها من إصلاحات دولة الاستقلال عدوا يمكنها من أسباب الحياة ويعطيها شرعية الوجود داخل المجتمع، منذ أن عاد الغنوشي من الخارج وباشر مهنة التدريس لاحظ أن طلبة الجامعة الذين يمثلون قوة داخلها يميلون إلى اليسار بمختلف مدارسه، وكان من رأيه أن تغيير موازين القوى داخل الجامعة يستلزم اقتحام الساحة التلمذيّة خصوصا في المدارس الثانوية من خلال الدروس داخل المعاهد وفي كل الفضاءات المتاحة فقد حضر كاتب هذه السطور دروسا للأستاذ راشد في شعبة باب سويقة أيام التلمذة في معهد ابن شرف (الحي الزيتوني سابقا)، هذا الشباب الذي تربى على أيدي الحركة منذ سنة 1972 سوف ينتقل فيما بعد إلى الجامعة محمّلا بالمفاهيم والرؤى التي تشرّبها وهو ما يفسر غلبة هذا الاتجاه وانحسار القوى اليسارية فيما بعد حيث برز من بينهم أيامها أشهر خطبائهم زميل الدراسة حسن الغضباني، هذا المخطط صاغه احميدة النبفر في مقال نشره في جريدة الرأي في قوله: « من يملك الجامعة يملك المجتمع ». أما السلطة فلم تكن على وعي بما يحصل في المدارس الثانوية من تجنيد وتجييش يتم داخل مؤسساتها تحت غطاء التدين وغيره من المسميات المضللة، فالقول بأن السلطة استعملت الإخوان لمقاومة اليسار قول فاسد من نواح متعددة من ذلك أن اليسار لم يكن يمثل خطورة على السلطة حتى تحتاج إلى اختلاق فريق لمقاومته ذلك أن المسألة تمت بكامل السلاسة حيث انتقل التلاميذ من المدارس الثانوية إلى الجامعة محملين بالرؤى الاخوانية فامتلكوا الساحة وضعف اليسار هناك، ويحلو للبعض أن يثبت هذا القول الفاسد بالإحالة إلى مصر أيام السادات حيث أخرج الإخوان المسلمين من السجون لمقاومة خصومه في الاتحاد الاشتراكي واليساريين وشتان بين المثالين ففي مصر كان هنالك صراع على السلطة استغله السادات لصالحه وهو ما سيحدث ما يشبهه لدينا في عهد المزالي

2) القول بأن الإخوان نشؤوا في رحم الجمعية القومية للقرآن الكريم التابعة للحزب الاشتراكي الدستوري التونسي هو الآخر قول فاسد فقد كان يقف على رأس هذه الجمعية الشيخ الحبيب المستاوي وهو دستوري مال إلى الشق اليوسفي ثم عاد إلى الصف البورقيبي فعينه عضوا في اللجنة المركزية للحزب ومكنه من رخصة مجلة جوهر الإسلام والجمعية المتحدث عنها والشيخ الحبيب مثله مثل الزيتونيين جميعا عانى من ظلم محمود المسعدي وتنكيله بهم والإساءة إليهم وقد وصل به الأمر إلى حدود مطالبة مدير الحي الزيتوني الشيخ محمد النابلي بإزالة لفظ الحي الزيتوني من على الباب الخارجي هذه الكراهية اللامبررة من طرف المسعدي دفعت بالزيتونيين جميعا إلى العطف على هؤلاء الشبان المتدينين لأنهم يرون فيهم شبابهم في صوت الطالب وفي الجامع فكانوا يساعدونهم من ذلك أن الشيخ المستاوي فتح جمعيته للغنوشي ومورو وغيرهما إلا أنه اختلف معهم حيث أراد الشيخ منهم أن يندسوا في الحزب ويعملوا على تغييره من الداخل ولكنهم كانوا يرغبون في الانفراد بالجمعية ومما يذكر أنه لطم مورو على وجهه وأطردهم، وتجدر الإشارة إلى أن التغيير الذي قصده الشيخ المستاوي لا يتجاوز الحد من غلواء العداء للزيتونيين الذي اشتهر به المسعدي والدفاع عن زملائه من داخل الحزب ولم يكن هنالك أي بعد سياسي فيما اقترح لأن الجماعة وقتها لم يظهر لها خط سياسي فخطابها أخلاقي دعوي وهو ما أراد الشيخ استثماره

3) أما القول بأن من مظاهر إعانة الحزب الاشتراكي الدستوري للإخوان أنهم كانوا يطبعون مجلة المعرفة في مطبعة الحزب فقول فاسد هو الآخر، فمجلة المعرفة صدر منها فيما بين سنتي 1972 و1979 بالضبط 45 عددا طبعت في مطابع مختلفة كمطبعة فانزي ودار الصباح وشركة الاستخراج الصناعي والصور الميكانيكية وغيرها ولم تطبع المجلة في الساجاب التابعة للحزب سوى العددين الأخيرين ليتم إيقافها، في نفس السنة 1979 اتفقت الحركة مع عبد المجيد عطية صاحب رخصة مجلة المجتمع على تمكينها من الرخصة حتى تصدرها دون أن تعلن عن ذلك مع توخي الحذر حتى لا تنكشف الجهة التي تقف وراء إعادتها إلى الصدور حيث لا نجد فيها سوى بعض النصوص ذات النفس الإسلامي مع غياب كلي للأسماء التي عرفت بكتاباتها في مجلة المعرفة وقد صدر من المجتمع ستة أعداد طبعت في الساجاب لتمنع بعد ذلك، فلو صحّ قول من قال إن طبع الأعداد المذكورة من مجلتي الحركة يؤشر على وجود تسهيلات لها من الحزب الحاكم من حقنا أن نتساءل عندها عن طبيعة العلاقة بين الحزب والدولة فما معنى أن تمنع الدولة ويلتف حزب الدولة على هذا القرار؟ ثم ما الذي يدفع الحزب الحاكم لإعانة تنظيم أشاد بثورة الملالي في نفس الوقت الذي بدأت فيه الأجهزة الأمنية والسياسية السيادية في الريبة من هذا التنظيم وابتدأت في التضييق عليه وشن حملة ضده؟، لمّا نجد أن الاتجاه الإسلامي سارع إلى التعاقد مع الساجاب في تلك الفترة بالذات ليصدر آخر عددين من المعرفة في سبتمبر ونوفمبر 1979 وفي نفس الوقت يتعاقد مع نفس المطبعة لطبع مجلة المجتمع التي صدر عددها الأوّل في 10 أوت 1979 الأمر الذي يعني أن الحركة أصدرت عنوانين مختلفين في نفس المطبعة وفي نفس الفترة، ألا يدل ذلك على أن الحركة شعرت بأن السلطة انتبهت إلى حقيقة مخططاتها فرأت أن تلجأ إلى مطبعة الحزب علّها تنأى بوسائل إعلامها عن الرقابة وتضع مطبعة الحزب في موقع الاتهام معها إن تطورت الأمور إلى غير صالحها. هكذا نلحظ أن التثبت في التواريخ يؤدي إلى القناعة بأن مساعدة الحزب للحركة قول فاسد لا يثبت أمام الوقائع
لما تولى محمد المزالي الوزارة الأولى واتجهت أطماعه إلى الوصول لرئاسة الجمهورية عمل على جمع الأنصار ومن بينهم حركة الاتجاه الإسلامي التي ساعدها ماليا وسياسيا بتلبية رغباتها وقد تفضل الأستاذ أحمد خالد فنشر كتابا موثقا حول الدور الذي لعبته وزارة الثقافة في عهد البشير بن سلامة في تمويل الحركة ودور على بوسلامة المكتبي في نشر كتب كبار المتطرفين وعتاتهم وهو كتاب على غاية قصوى من الأهمية عنوانه « كيف زرع الفكر التكفيري في ثمانينات القرن العشرين بتونس » علما وأن المؤلف شغل خطة مدير ديوان وزير الثقافة في تلك الفترة

بقلم أنس الشابي

الصورة العليا : الإخواني راشد الغنوشي على اليسار برفقة محمد مزالي في الوسط