قرأت في الآونة الأخيرة عديد التدوينات والتعاليق بخصوص الأستاذين الصادق بلعيد وعياض بن عاشور. ولفت انتباهي بالخصوص العبارات السوقية والمبتذلة التي كانت أقرب إلى السب والشتم وقلة الحياء منها إلى النقد والتعبير عن الاختلاف. فتجد أن هذا « بيّوع »، والآخر « عرّاب النهضة » ولا يعترف بالعلم إلا ما أتى من عائلته، وما إلى ذلك من عبارات لا علاقة لها بالمواقف السياسية أو المبدئيّة، وذلك طبعا دون ذكر الكلمات التي لا أريد تشويه مقالي بها. فالصادق بلعيد وعياض بن عاشور قامتان علميّتان لا يمكن لأيّ كان أن يُشكّك في قدراتهما الفكرية ولا في كفاءتهما. وهما الآن على طرفي نقيض بخصوص الموقف السياسي ممّا يحدث اليوم بالبلاد، رغم أن موقف كل واحد منهما يستند إلى قراءة علمية. وهو ما يدلّ على أن القانون مادّة كثيرا ما تكون مطّاطة ويُمكن تأويلها بطرق مختلفة إلى حدّ التناقض التام. لكنني أبقى على يقين بأن بلعيد لا يبحث عن منصب سياسي كما يُقال، وأن ابن عاشور لا يقوم بتصفية حسابات كما يُقال أيضا. لذا، فلنقبل الرأي المخالف، وننتقده إن لزم الأمر، على أن يبقى نقدنا في كنف الاحترام، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بقامات من هذا المعيار. ويبقى التاريخ وصندوق الاقتراع الفيصل الحقيقي بينهما
وبخصوص احترام القامات والمقامات، أريد أن أتعرّض إلى تنظيمين يتمّ هذه الأيام الحديث عنهما بكثير من الغلّ والحقد والشتم بشكل مُخجل وأبعد ما يكون عن الموضوعية وعن النقد المبدئي البنّاء، وأعني الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الدستوري الحر
فبخصوص الاتحاد، كثيرا ما نسمع ما معناه أنه من المُتسبّبين في الأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد في هذه الفترة، في حين أنه قام بدوه كمدافع عن حقوق العمّال. فهل تريدونه أن يُدافع عن الحكومة أو عن الأعراف؟ فدولة المؤسسات تُفيد بأن على كل مؤسسة أن تقوم بدورها، لا أن تقوم بدور غيرها ولا أن يقوم غيرها بدورها. ومن الاتّهامات الأخرى المُوجّهة إلى الاتحاد أنه يتجاوز دوره النقابي ليلعب دورا سياسيّا. وهنا لا بدّ من التذكير بأن الاتحاد العام التونسي للشغل كان دائما منذ تأسيسه يلعب دورا سياسيّا وطنيّا، نذكره بالخير عندما يُفيدنا وبالسوء عندما نختلف معه. فلم نسمع أحدا يلوم على فرحات حشاد عندما كان يُناضل من أجل استقلال البلاد. واغتياله عن طريق اليد الحمراء في 5 ديسمبر 1952 لم يكن بسبب نشاطه النقابي وإنّما بسبب نضاله السياسي. كما نذكر الاتحاد بالخير عندما نتذكّر دوره في صائفة 2013 حين أدار باقتدار الحوار الوطني الذي جنّب البلاد حربا أهليّة والذي جلب لتونس أول جائزة نوبل للسلام. وأما الأصوات التي تتعالى اليوم لتشويهه والاتهامات بالفساد المُوجّهة إلى بعض أعضائه بعبارات بذيئة وظالمة فهي من قبيل محاولات الحط من قيمة هذا الصرح الكبير، لا لشيء سوى من أجل موقفه المناهض للحوار الشكلي المطلوب منه المشاركة فيه. هنا أيضا، يُمكن انتقاد موقفه السياسي بالاحترام، دون السقوط في الشتم وهتك الأعراض
أما فيما يتعلّق بالحزب الدستوري، فإنه من الخطأ نكران تاريخ هذا الحزب العريق، بما فيه من إيجابيّات وسلبيّات، وقد احتفل بقرن من الوجود، صحبة الحزب الشيوعي التونسي (المسار الآن). وحل الحزب الدستوري سنة 2011 كان يُمثّل في اعتقادي خطأ سياسيّا، إذ كان من الأجدر محاسبة الأشخاص عن تجاوزاتهم بدل معاقبة الحزب برمته. أما عن حاضر الحزب فلا أعتقد أنه يضمّ فاسدين. فلو كان فيه فساد من أيّ نوع لكان له بالمرصاد كل المُتربّصين به. وفي كل الحالات تُحسب لهذا الحزب ميزتان لا يمكن لأحد أن ينكرهما، وهما، أولا، الثبات على المبادئ، وخاصّة مبدأ الدفاع بلا هوادة عن مدنيّة الدولة، وثانيا الشعبية الكبيرة التي يحظى بها بدليل صدارته في نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية القادمة حسب عمليات سبر الآراء طيلة السنتين الماضيتين. وهنا لا بدّ أن نُؤكّد على حق الجميع في الاختلاف مع هذا الحزب وانتقاده وانتقاد سياسته وأفكاره ورئيسته. أما الكلام عن « الزغرادة » و »مولات الكاسك » و »المهرّجة » و »الكركوز »، وكلام آخر لا أسمح لنفسي بذكره هنا، دون انتقاد الأفكار والمواقف، فإن ذلك لا يجوز، لا أخلاقيا ولا سياسيّا. لأن انتقاد الحزب بالاقتصار على وصفه بالدكتاتورية، مثلا، فذلك يعود في نظري إلى أحد أمرين: إما أن المقصود هو انتقاد زين العابدين بن علي الذي لا أثر له اليوم في الحزب، وإما خدمةً لحزب آخر، وأحيانا لشخص واحد آخر، حتى لا يبرز اسمها بشكل يُغطّي على أسماء أخرى، أحيانا نكرات
خلاصة القول، فإن القامات، أشخاصا كانوا أو منظمات، يُمكن الاختلاف معها لأسباب مبدئية وموضوعية، أو حتى لأسباب ذاتية أو سياسويّة، على أن يبقى النقد نزيها وهادئا حتى إذا كان الاختلاف عميقا. أما الشتم والاستهزاء فهُما من شيم الذين تنقصهم الحجة
هذه القاعدة تنطبق أيضا على العلاقات الدولية. واستحضر هنا خطاب البالماريوم الشهير عندما خاطب بورقيبة القذافي بالقول: » تتحدى أمريكا؟ ماهو تاكل طريحة ». وما هي إلا فترة قصيرة حتى قصفت أمريكا مقر إقامة القذافي في العزيزية ممّا أدى إلى مقتل ابنته وإصابة اثنين من أبنائه
منير الشرفي