التعليم ، الثقافة وصناعة العقول

لا اختلاف على أن التعليم بكل مراحله والثقافة من القطاعات الاستراتيجية باعتبار خطورة دورها في صناعة العقول. وقد كانت انطلاقة التعليم في بداية بناء الدولة الوطنية التونسية مما يؤهله ليكون الرافعة الأساسية للتنمية والتحديث والتقدم بالنسبة إلى بلادنا وللصعود الاجتماعي بالنسبة إلى فئات واسعة من مجتمعنا. وبالمثل كان المشروع الثقافي التونسي الذي عرف كيف ينخرط في « تقاليد » ثقافية وطنية رسختها أجيال منذ مطلع العصر الحديث في رؤية عامة قامت على التنوير والاعتدال وثقافة التقدم والتجديد. وقد سارت تونس شوطا مهما في تدعيم التعليم أفقيا بنشر المدارس على كامل التراب التونسي وبإقرار مجانية التعليم في مرحلة أولى وإجباريته في مرحلة ثانية ، وفي تركيز أسسه عموديا بإرساء سياسات تعليمية كانت تعتبر في وقتها أواخر الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي من أفضل السياسات التعليمية المتاحة آنذاك . وكان بإمكان بلادنا لو واصلت استراتيجيتها تلك أن يبلغ التعليم فيها اليوم من التطور والفعالية التنموية ما بلغه في سنغافورة ، البلد الذي كان لحظة استقلاله منتصف الستينات في وضع متخلف مقارنة بما كانت عليه تونس، وكانت إمكانياتها الاقتصادية أدنى بكثير من إمكانيات بلادنا، ولكنها راهنت هي الأخرى مثل بلادنا على التعليم واختارت أن تستثمر في الإنسان رأس المال الأساسي وفي بناء العقول لتكون القاعدة التي تبنى عليها الدولة بكل مكوناتها. وفي وقت متزامن بين التجربتين استطاعتا أن تحققا نتائج مهمة ، ففي بلادنا استطاعت المؤسسة التعليمية أن تخرج أجيالا من أفضل الكفاءات في كل الاختصاصات هي التي بنت تونس في كل المجلات واستطاعت في ظرف وجيز أن تحقق اكتفاءها من الكوادر العليا كما استطاعت المدرسة أن تساهم مساهمة ظاهرة في الرفع من المستوى المعرفي والثقافي لعموم المواطنين . وقد عاضدت المدرسة في ذلك سياسة ثقافية استطاعت أن توصل إلى أعماق القرى والأرياف التونسية أصوات المبدعين في المسرح والسينما والموسيقى عبر شبكة واسعة من المكتبات العمومية ودور الثقافة وقاعات العروض الفرجوية الصالحة لفنون متنوعة. وكان المضمون مع كل ذلك مما ينسجم مع تطلعات المرحلة وأجيالها . بل إن تونس ظلت تسعى للمحافظة على هذا المكسب الوطني وعلى جعله يواكب تطور المعارف والتقنيات في العالم حتى بدأت الاختيارات السياسية تتراجع عما كانت انطلقت منه دولة الاستقلال سواء من جهة الميزانية المخصصة للتعليم أو من جهة الاختيارات التربوية الاستراتيجية التي بدأت تفقد شيئا فشيئا استقلاليتها بتأثير إملاءات المانحين، ثم زاد الطين بلّة تزامن ذلك مع إقحام التعليم في التجاذبات الإيديولوجية مما ولّد موجة من التشدد والتطرف كان من نتائجها ظهور جيل من الخريجين يغلب عليهم ضيق الأفق والانغلاق الفكري مما سرّع في مطلب إصلاح التعليم في بداية التسعينات، ولكن محاولة الإصلاح تلك لم تلبث أن قبرت ليواصل التعليم ببلادنا تراجعه الذي لم يتوقف إلى اليوم رغم كل شعارات الإصلاح التي ظلت ترفعها الحكومات، وصولا إلى هذه العشرية العجفاء التي تلاشت خلالها آخر بقايا الانطلاقة القوية التي شهدها مع انطلاق بناء دولة الاستقلال. في تلك المرحلة كان نظام التعليم بالجزيرة الآسيوية يواصل مساره ضمن نسق التقدم وكانت إصلاحات منتصف التسعينات التي تحقق معها الانتقال التام إلى اقتصاد المعرفة لتتحقق بالفعل استراتيجية جعل التعليم القاعدة الرئيسية ويكاد يكون الوحيدة للنهضة الاقتصادية المشهودة التي أوصلت سنغافورة إلى ما هي عليه اليوم. فماذا حصل ليواصل التعليم في الجزيرة الآسيوية الصغيرة قفزاته نحو أقصى الغايات حين نقل البلد من وضع التخلف والفقر والتبعية إلى وضع يصنفها ضمن أفضل الاقتصاديات المتطورة عالميا؟ ما الذي مكن هذا البلد من أن يتحول إلى قبلة لأرقى الجامعات ولأمجد المعاهد العليا العالمية تحرص جميعها على أن يكون لها فروع هناك حتى أصبحت سنغافورة اليوم مركزا عالميا مستقطبا وجاذبا للمؤسسات التعليمية العالمية ولأفضل طلاب العلم ؟ وماذا حصل في بلادنا ولتعليمنا ليصل اليوم إلى أدنى المراتب في التصنيفات العالمية وليتحول إلى عبء على الاقتصاد وعلى المجموعة الوطنية عموما؟ وماذا حدث لثقافتنا حتى فقدت ما كان لها من إشعاع وخبا بريقها فما عادت تقنع أحدا بما في ذلك أبناءنا؟

من غير الممكن أن يحدد شخص ما، أيا كانت صفته، الأسباب في مقال صحفي، وإنما هذه مسؤولية وطنية يجب أن ينهض لها المختصون وأن تخصص لها الدراسات العلمية المعمقة والموسعة والميدانية كذلك. في انتظار انطلاق مثل هذه المهمة الوطنية العاجلة لا بأس أن نقرأ تجارب غيرنا وأن نطلع عليها وأن نعدّ العدّة لإصلاح أنفسنا وتقويم نظامنا التعليمي، لا بأس أن نعرف أن سنغافورة لم تفصل التعليم عن بناء الإنسان ، بل جعلت من هذا البناء الهدف الاستراتيجي الجامع لكل مراحل التعليم، ولأنها انطلقت من هذا المنطلق استطاعت أن تقضي على أحد أخطر أسباب تخلفها السابق وهو الفساد الذي كان مستشريا في الإدارة وفي كل مفاصل الدولة، كما استطاعت أن تحوّل أحد خصوصياتها العرقية والثقافية المتمثلة في التنوع العرقي والاختلاف الثقافي والديني من عامل اهتزاز وفرقة إلى عامل ثراء وتنوع ثقافي جاذب للسياحة وللاستثمار، وضمَن الجمع بين إكساب الطلاب أرقى الكفاءات المعرفية والمهارات التقنية والكفاءات العاطفية والوجدانية والأخلاقية من النزاهة والمسؤولية والانضباط والتعويل على الذات والتعايش إنشاء مواطنين من ذوي أرفع مستويات الكفاءة في مختلف المجالات ودولة من أفضل الدول حوكمة مصنّفة ضمن الدول التي تكاد تكون خالية من الفساد. وإذا كانت دول عديدة قد درست هذه التجربة وعملت على الاستفادة منها، فلم لا نبدأ بإنشاء مجلس أعلى للتعليم يجمع بين أفضل الكفاءات الوطنية المختصة والممثلة لكل المتدخلين عسى أن يكون ذلك خطوة البداية في طريق الإنقاذ الصعب والإصلاح الأصعب؟

بقلم زهية جويرو