يمرّ اليوم الأحد 1 أوت 2021، الأسبوع الأول للخطوة التي أقدم عليها رئيس الجمهورية قيس سعيّد باتخاذ جملة من «التدابير الاستثنائية» استنادا للفصل 80 من دستور تونس الجديد، وكان أولها وأبرزها كما صار معلوما، إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي مع اثنين من وزرائه وتجميد عمل مجلس نواب الشعب لمدة شهر ورفع الحصانة على سكانه، وتلت ذلك سلسلة من الخطوات القانونية والإجرائية تمثل بعضها في إعفاء فيلق العاملين في القصبة بين مستشارين ومكلفين بمأمورية وتعديل توقيت حظر الجولان وتعيين «مسيّر» لوزارة الداخلية ثم إعفاء كاتب الدولة للخارجية وتحريك بعض الملفات والتتبعات القضائية المحدودة الى جانب حراك سياسي ولقاءات مكثفة مع مسؤولين في المجتمع المدني وكذلك ضيوف أجانب من الدول الشقيقة والصديقة
وكما هو معلوم فقد اختلفت ردود الأفعال حول ما أتاه رئيس الجمهورية في الداخل والخارج وبرزت بالمناسبة التقاطعات والحسابات الخاصة والعامة الأمر الذي يضاعف مسؤولية الجميع ببلادنا للتحلّي بأقصى درجات اليقظة والانتصار للراية الوطنية
وطبيعي أن تختلف وحتى تتناقض المواقف في تونس في الإطار المدني والسلمي ليس فقط لأن الاختلاف رحمة كما يقال وهو لا يفسد للود قضية، ولكن لأن الديمقراطية تقتضي هذا الاختلاف وهذا التنوع خصوصا عندما يستند إلى رؤى ومقاربات ومبادئ بعيدة عن الانتهازية والسياسوية والشعبوية، لذلك من حق طيف من التونسيين أن يعتبر ما أتاه رئيس الجمهورية «انقلابا على الدستور» ويدعو الى «رحيل منظومة الحكم برمتها»، ومن حق طيف آخر الاستماتة وراء الشرعية الانتخابية المهترئة ومحاولة بعث الحياة في برلمان يرى التونسيون أنه في حالة موت سريري، ومن حق آخرين أيضا اعتبار قرار سيادته شجاعا وضروريا لتعديل المشهد السياسي وإزاحة خصم شديد البأس هو حركة النهضة الإسلامية التي تتحمل بشهادة الجميع – حتى داخل هذا التنظيم نفسه- مسؤولية ما نحن فيه من خراب اقتصادي وتأزم اجتماعي وعبث سياسي وانهيار قيمي واخلاقي
وطبيعي في هكذا «حرب» أو «تدافع» أو صراع أو اختلاف حضاري في المواقف أن تتعزز الديمقراطية مع فرضية أن تحصل الانحرافات للأسف ويحيد البعض عن ضوابط ونواميس العمل السياسي الراقي ويخرج به عن إطاره المدني والسلمي وهو ما يجب التصدي له بكل حزم
ولنسلّم بأن ما حصل قبل أسبوع «لحظة» فارقة في المشهدية استندت الى لعبة موازين القوى وفرضت أمرا واقعا جديدا فيه ما يشفي الغليل وفيه ما يدعو الى الحذر كي لا نقول الفزع والخشية من القادم
إن موازين القوى التي نتحدث عنها هي بالاساس ذاك المزاج الشعبي العام الذي انحاز لموقف رئيس الجمهورية بعد أن ترسخت لدى هذا «الشعب» قناعة بأن البرلمان ومن يمسك باللعبة داخله وخارجه وتحديدا في القصبة أصبح عبءا وجب التخلص منه، وبدا ساكن قرطاج المنقذ أو «المهدي المنتظر» لتحقيق ذلك بنفس السلاح وهو نص الدستور الذي ساهمت النهضة بشكل رئيسي في تحبيره فالنص القانوني هو في المحصّلة نتاج موازين قوى وترجمته على أرض الواقع تتم وفق موازين القوى ايضا
واللافت ايضا أن السقف الذي وضعه رئيس الجمهورية مرتفع جدا فهو قلب الطاولة على من يشترك معه في منظومة الحكم ووضع نفسه أمام كثير من التحديات لعل أبرزها قدرته على فك الارتباط والانتصار على الشركاء/الخصوم وفتح الملفات بعد طول انتظار، ملفات الفساد التي لطالما تحدث عنها وتعويض فترة «السلبية» ان جاز القول فهو لم يقدم ولو مبادرة تشريعية على امتداد زهاء العامين ولم يرأس مجلسا وزاريا دون أن ننسى أن من بين انتظارات التونسيين فتح ملف الارهاب بكل تفريعاته وتقديم الحلول الاقتصادية والاجتماعية والصحية للعموم
لقد بلغ الأمر بنا قبل 25 جويلية عتبة التشاؤم المفرط وصرنا نحذّر من أن التونسي الذي ينجو من الكورونا قد لا ينجو من الجوع وقد كانت احتجاجات شهر جوان الماضي في العديد من الاحياء الشعبية رسالة قوية في هذا الاتجاه.
وعلى هذا الاساس، فالحل في ترك الحيل والوضوح والترتيب الجيد والفعلي والصائب للأولويات كي نقلل على الاقل مرحليا من تداعيات الازمة المركّبة والشاملة
لقد انزاحت الغمّة في الشارع التونسي، والتونسي بطبعه ميّال للحياة والعيش الكريم ومثلما قبل بحكم منظومات عديدة وبألوان عديدة ومرجعيات عديدة فيها الوطني والديني، فإنه سرعان ما ينتفض ويلوذ الى العصيان والتمرد عندما تضيق به الحال وتنتهك حقوقه الأساسية المدنية وخاصة الاقتصادية والاجتماعية فالحقوق متكاملة ومترابطة وغير قابلة للتجزئة
إن التونسيين اليوم يبحثون عن التحصين والنجاة من الكورونا وهذا لا يتم إلا بقيادة وطنية موحدة للحرب على هذا الوباء كما كتبنا قبل مدة واستغلال الفرصة لإعادة الاعتبار للصحة العمومية، وهم يبحثون كذلك عن وقف تدهور القدرة الشرائية ووضع حد لغلاء الاسعار ومعالجة آفة البطالة والفقر والتهميش والحقرة وانخرام البنية التحتية مع ضمان السلامة والامن من مخاطر الارهاب والارهابيين وتجار الدين والمهرّبين والفاسدين وهذه النقطة بالذات تحيلنا الى أهمية تحرر القضاء واضطلاعه بدوره في اقامة العدل ووقف الافلات من العقاب
إن مؤشرات ايجابية عديدة برزت هذه الايام، جاء بعضها من الخارج الذي تفاعل معنا وعلينا أن نرسم نحن مربع هذا التفاعل حتى لا يتحول الى إملاءات وتبعية ومن الداخل بفضل المجتمع السياسي والمدني المؤيد والمعارض والمتحفظ على حد سواء والذي من المفروض ان لا يفتكّ صلاحيات الرئيس أو أن يسرق منه مبادرته فيترك له واجب وضع خارطة الطريق وجدولها الزمني ليتولى البقية المرافقة والمشاركة والدعم
لقد قدّم التونسيون التضحيات وهم جديرون بما هو أفضل ومثلما قدّموا للعالم تجربتهم المميزة والتي تعثرت بفعل العوامل الذاتية والموضوعية بمقدورنا أن ننهض، كل من موقعه، من جديد وننتصر لمشروع الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية
بقلم مراد علالة