استمعوا إلى صوت الشباب

قد يكون الكثير من التونسيين تابعوا مثلما تابعت أخبار وقائع « الكر والفرّ » وأحداث « الشغب » التي انتشرت بكثير من المناطق ببلادنا على شاشة قناة أجنبية كانت موجودة في أماكن مختلفة وتنقل بشكل مباشر الأحداث والصور وتحلل وتسأل « الخبراء » ليحللوا لها ما تنقل، وقد يكون من التونسيين من تساءل مثلما تساءلت أين الإعلام التونسي؟ أين السلطات التونسية حتى تقدم المعطى الدقيق والرؤية الرسمية التي تنبع من مصلحة البلاد وشعبها والتي تتجاوز وصف الأحداث والوقائع وإحصاء المشاغبين ومن ألقي عليه القبض منهم وتحديد شرائحهم العمرية لتنير المواطنين حول حقائق ما يحدث ودوافعه والمحركين له والفاعلين فيه ؟

هل غيابها راجع إلى انشغالها بقضايا أهم من هذه الوقائع؟ ولكن ها نحن نرى ونسمع دعوات « استغاثة » للحاق بالأموال التونسية المنهوبة المهددة بأن تعود إلى ناهبيها بعد أن تستوفي عشر سنوات كاملة لم تتمكن خلالها الدولة التونسية من تقديم الوثائق الضرورية من لاستعادتها؟ بأي قضية إذن انشغل رؤساؤنا ووزراؤنا وهم كثر وما فتئوا يتكاثرون؟ لعلهم انشغلوا بهذه الجائحة الطارئة التي تحصد الأرواح حصدا والتي أصابت وقتلت من التونسيين أكثر مما فعلت مع شعوب يتجاوز تعدادها المائة مليون نسمة وقتلت في يوم الواقعة نفسها أكثر مما قتلت في أي يوم آخر، لعلهم مشغولون بعقد صفقات التلقيح وبالعمل على توفيره لشعبهم مثلما تفعل كل الحكومات عبر العالم اليوم؟ إن كان الأمر كذلك فلهم كامل العذر أن ينشغلوا وألا يلتفتوا لمثل هذا « التشويش » على مهامهم الخطيرة في مواجهة طامة الجائحة الكبرى، لكن ما نرى ونسمع لا يرجح هذا الاحتمال

أو لعلهم مشغولون بالبحث عن حلول جذرية لهؤلاء المحتجين المعطلين الفقراء المهمّشين المنبوذين المتهمين بكونهم خريجي سجون ومنحرفين ومخرّبين؟ فهل سيكون لهؤلاء موقع في سياسات حكوماتنا المتعاقبة ولمطالبهم خطة تنفيذية و »لانحرافاتهم » برنامج علاجي غير إلقاء القبض عليهم وإرسالهم إلى السجون؟ وهل سيكون لمشاكلهم حلول في الأفق حتى البعيد؟ هل تأخذ هذه الحكومات بعين الاعتبار أن هؤلاء الشباب الذي كبروا وأدركت نسبة منهم سن الرشد زمن « الثورة » والذين يفترض أنهم يحملون « وعيا ثوريا » وأن ثقافتهم ثقافة الثورة وأنهم مدفوعون بحلم الثورة وحماسها، أغلبهم في الحقيقة غادر المدرسة قبل أن يتقن قراءة نص بسيط وكتابة جملة بسيطة وحتى قبل أن يتقن كتابة اسمه صحيحا، وأغلبهم يحلم بأن يصحو يوما فيجد نفسه في مكان آخر غير هذه البلاد وإن كان « بحرقة » يعلم أن احتمال الموت فيها أعلى من احتمال النجاة، أو ببيع نفسه للشيطان تحت مسمى الجهاد؟

هل يخطر على بال هؤلاء الذين يدافعون اليوم عن الثورة وباسم الدفاع عنها يكيلون شتى التهم لهؤلاء المحتجين أن سلوكهم وأعمالهم، وهي مدانة قطعا، إنما هي التعبير الأوضح والأعنف عن فشل ذريع لكل منظومة الحكم التي جاءت بها الثورة وعلى أن من أتت بهم هم الذين سرقوا ثورة الشباب وهم الذي دمروا حلمهم حتى صار أقصى حلمهم الهرب من هذه البلاد وهم الذين وسعوا دوائر الفساد التي هيمنت على كل شيء فأبدلوا بذلك حماس الشباب المطالب منذ أيام الثورة الأولى وفي أول شعاراتها بالقضاء على الفساد والفاسدين بثقافة شعارها « كلما كنت أكثر فسادا كنت أنجح » . فهل ستستمرون في الإلقاء بالمشكلة وكل تعقيداتها على عاتق القوى الأمنية صارفين اهتمامكم عن هؤلاء المتهمين بالانحراف والتخريب لأنهم لا يستحقون سوى أن يلقى عليهم القبض في انتظار « محاكمة عادلة » وبذلك ترتاح ضمائركم وتطمئن نفوسكم وتنامون في فرشكم الوثيرة قريري العيون؟

هل ننتظر منكم أن تستمعوا إلى رأي من يحاول أن يفهم سلوكهم من خارج منطق المؤامرات ودائرة الاتهامات بالتخريب والانحراف والنهب وأن تكفوا عن اتهام الجميع بمعاداة الثورة وبالارتهان للأجنبي وباستغلال هذه الفوضى لغايات سياسية؟ هل ستكلفون أنفسكم وطأة افتراض أن هؤلاء قد قاموا بما قاموا به لأسباب خطيرة فعلا وبدوافع معقولة ومن أجل مطالب عادلة وأنّ ما يعاب عليهم إنما هو طريقة التحرك الفوضوية المحكومة بانفعالات قصوى وأسلوب المطالبة العنيف الفاقد للمعقولية والجدوى بسبب غياب التأطير والقيادة التي تحمي عادة التحركات الاجتماعية وتدفعها في مسار « ثوري » بدل أن تظل انفعالية وتنقلب إلى فوضى عارمة وتقاتل أهليّ؟ هل يحق لنا أن ننتظر ونفترض أنّ هذه الحكومة « المتجددة » ستحسن قراءة هذه الأحداث وتعدّ لدرأ خطرها خطة استراتيجية تنقذ البلاد وشبابها من التدمير الذي احتمله وصبر عليه عشر سنوات كاملة

بقلم زهية جويرو