ازدواجية خطاب النهضة في أوضح تجلياتها

وأخيرا، انعقد إذن مجلس شورى حركة النهضة الإخوانية يوم الأربعاء ليُصدر بيانا يوم الخميس بإمضاء عبد الكريم الهاروني الذي أصبح يُعرف ب »عبد الكريم تعويضات ». والتأخير في إصدار البيان يدل في حدّ ذاته على أن صياغته أخذت وقتا طويلا حتّى يتمكّن مُحرره من تضمينه مختلف التوجّهات المُعبّر عنها داخل المجلس رغم تناقضها. وإذا بالبيان يقول الشيء ونقيضه

التناقضات الداخلية لحركة النهضة الإخوانية ليست جديدة. والجميع يذكر عريضة المائة التي صدرت منذ أشهر للتنديد بقيادة الحزب وبإصرار رئيسه على البقاء في الرئاسة رغم انتهاء العهدة الأخيرة التي يُخوّلها له النظام الداخلي. ولقد تلت هذه العريضة عديد التمرّدات على راشد الغنوشي وخاصّة منها تمرّد بعض القياديين البارزين على غرار محمد بن سالم ولطفي زيتون. هذه التمرّدات بلغت أوجها بعد الإجراءات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية يوم 25 جويلية وهي التي أتت بالخصوص من طرف سمير ديلو وعبد اللطيف المكي وعماد الحمامي، وحتى من طرف أقرب المُقربين للغنوشي، وأعني يمينة الزغلامي

مُعارضة راشد الغنوشي الأخيرة كانت تعتمد بالخصوص على انتقاد فشله في رئاسة الحزب وفي رئاسة مجلس نواب الشعب وفي سياسته بشكل عام، وقد اعتبرته المسؤول الأول على انهيار الحزب، وبالخصوص على ما آلت إيه الأوضاع في البلاد

غير أن الغنوشي، وبعض المُقرّبين جدا منه على غرار صهره والمرتبطين به ارتباطا مصلحيّا، مازالوا مُتمسّكين بالسلطة، رغم أن كل المؤشرات تدلّ على أنهم فقدوها نهائيّا. وكعادته، يقوم الغنوشي بكل ما في وسعه ليُحافظ على مصالحه الشخصية وعلى مصالح الجهات الأجنبية التي تقف وراءه ويقف وراءها، وأعني منظمة الإخوان المسلمين الإرهابية والدولتين الراعيتين لها، قطر وتركيا. ونظرا لصعوبة المعادلة، فإننا نجده يرقص على حبلين متوازيين، لا يلتقيان مبدئيّا. فمن جهة نراه يسعى للتصعيد ضد المسار التصحيحي، وذلك بمحاولة التجييش بالمال عن طريق مرافقه الذي تمّ، من ألطاف الله، إيقافه قبل إنهاء عمله، وبمحاولة تأنيب الرأي العام الدولي، والأمريكي بالخصوص، بواسطة عونه رضوان المصمودي انطلاقا من واشنطن. كما نراه من جهة أخرى يخفض جناح الذل ليُعلن في بيان حركة النهضة عن « استعداد الحركة للتفاعل الإيجابي »، و »الاعتراف والعمل على تصحيح الأداء والاعتذار عن الأخطاء » و: الحرص على نهج الحوار مع جميع الأطراف وفي مقدمتها رئيس الجمهورية »

فهو إذن يتوخّى سبيلين متناقضين، سبيل الحرب بالتجييش وسبيل السلم بالاعتراف بالأخطاء وطلب الحوار. ولئن بدا ذلك انعكاسا للتناقضات الداخلية لحركة النهضة، فإنه لا يعدو أن يكون حلقة أخرى من حلقات الخطاب المُزدوج الذي اتّخذته الحركة أسلوبا في التعامل السياسي منذ نشأتها

ومن التناقضات الواردة في بيان مجلس شورى النهضة أنه يعتبر ما حدث يوم 25 جويلية « انقلابا على الدستور وشلّا لمؤسسات الدولة خاصّة بحل الحكومة »، ويدعو في نفس الوقت إلى الحوار مع رئيس الجمهورية، وإلى الإسراع في تشكيل الحكومة. فهل يُعقل أن ندعو إلى الحوار مع « الإنقلابي »؟ وهل يُمكن المطالبة بالتسريع في تشكيل حكومة جديدة دون الاعتراف بأحقيّة حل الحكومة القديمة؟

وعلاوة عن التناقضات، وردت في البيان مغالطات مفضوحة، من ذلك « الرفض الواسع لقرارات (25 جويلية) » والترحيب (بها) في بعض الأوساط ». والجميع يعلم أن الحقيقة هي عكس ذلك تماما إذ كان الترحيب واسعا والرفض في بعض الأوساط. كما عبّر البيان عن « الانشغال البالغ تجاه الإيقافات التي شملت نواب الشعب »، وعبّر في ذات الوقت عن :انخراط الحركة في ملاحقة المورّطين مهما كانت مواقعهم

أما الموقف المثير للاستهزاء فهو التعبير عن « الخشية من توظيف القضاء في تصفية حسابات سياسية »، وكأن حركة النهضة تعتقد بأن الشعب التونسي لم يسمع أبدا بالوثائق والأدلّة التي كشفتها هيئة الدفاع عن الشهيدين حول تورّطها في محاولات : توظيف القضاء في تصفية حسابات سياسيّة

تناقضات، خطاب مزدوج، معارضة داخلية قويّة ومُتنوّعة، معارضة خارجيّة تجلّت بالخصوص في الهجومات العديدة على مقرات الحزب، تخلّي القوى الأجنبية المُؤثّرة عن المساندة التي حظيت بها طيلة السنوات الأخيرة، آلاف الملفات القضائية المخفيّة والمتضمّنة لوثائق مُكبّلة، تقرير محكمة المحاسبات المُتضّمن لأدلّة وأرقام عن استعمال المال الأجنبي الفاسد في الحملة الانتخابية الأخير الخ… تلك هي بعض مشاغل راشد الغنوشي وحزبه. ومع ذلك، ها أن وزارة العدل الأمريكية تنشر وثائق رسمية لعقد لوبيينغ لفائدة حركة النهضة مُوقّعة هذا الأسبوع

ألهذا الحد يُمكن للمرء أن تكون على عينيه غشاوة تمنعه من مشاهدة باب الخروج من البيت التي دخلها والتي ما انفكّ أصحابها يجرّونه إليه؟

بقلم منير الشرفي