ترجلت اليوم في تونس المدينة… شارع بورقيبة الزعيم … بسبب نزولي للطبيب في وسط البلد , طبيب الصداع النصفي … ذهلت للتغيرات التي طرأت على قاعدة تمثال ابن خلدون الثابت في قصيدة أولاد أحمد ( يا ابن خلدون المدينة , المدينة أضيق من خطاك …)
تأملت الفظاعات في قاعدة التمثال التي اختارها المصمم ( لا أدري من هو ) كمقولات من نوع : الإنسان مدني بطبعه , و العدل أساس العمران
… مقولات شعارات , أقل ما يقال فيها اليوم أنها كلام عام لا معنى حقيقي له في القرن الحادي و العشرين
و تذكرت أن ابن خلدون كان صامتا فأنطقوه اليوم و الحمد لله بعقلية يومية المنار … هل تعرفون يومية المنار ؟؟؟ ( أيها القدامي ؟؟؟)
… فظاعات رأيتها اليوم مكتوبة في رخام القاعدة تنم على فقر في الحس و المعنى على حد عبارة أحمد ابن أبي الضياف حين قال في أواخر القرن التاسع عشر تونس الفقيرة حسا و معنى :
لعل كل ذلك من تدبير سعاد الشيخة ( هي شيخة غير خليجية لا محالة ) و مستشاريها في المجلس البلدي ( …بالله عليك يا بيرم التونسي أتركني في حالي يرحم والديك الشيوخ البيارمة ) … كان أمرا موحشا رديئا , مدرسيا تافها و وضيعا ينم عن عقلية شعارات التلقين ( أعتقد أنها شعارات إخوانجية … الإعتقاد يعني القناعة ) …
المحصلة : فظاعة جمالية ارتبكها زبير التركي بسذاجة نموذجية تليق بالأتراك قبل ظهور فانتازمات الأمبراطورية العثمانية (زبير التركي الذي يفتخر بأصوله التركية جهارا) وملخصها ابن خلدون فاتحا كتابا قيل أنه المقدمة … تذكرت أطروحة ناجية الوريمي حول ابن خلدون و حول سلفيته ( وهذا موضوع فقهي كبير) …
اللهم سامحنا و أغفر لنا بمساسنا بمقدسات التوانسة … قلت في نفسي ليس هذا ابن خلدون الرمز الذي أعرفه في شارع بورقيبة عندما عرفته جائعا و مقهورا و هامشيا عندما جئت للعاصمة من وراء علامات الطريق ( البلايك) … كان أكثر حنوا علي في شارع الليالي المدلهمة حيث بصقة المسلول تكاد تراها دينارا …
و لكنني تذكرت في المقابل سبينوزا باروخ و تذكرت تمثاله في أمستردام ,,,, نفس البرنس … التفاصيل مختلفة … برنس ابن خلدون تونسي أصم برونزي موحش بطرياركي يقول لنا : الأصالة… الأصالة… الأصالة يا دين الرب …على لسان محمد مزالي ( من يا ترى كان يلبس برنسا ؟ … من كان يلبس برنسا في أوقات الزمة ؟ …. من كان يعرف صوت الرطاب في السداية تكتبه أصابع بينيلوبيه بقلم من خشب … برنوس نوميديا أعني …)
برنس سبينوزا معطف دكاترة الفقه التلمودي , مرصع بالطيور و العصافير و الببغوات ( طبعا سبينوزا يؤمن بالنص مكتوبا و محفوظا) … ثمثال ابن خلدون تمثال أيديولوجي , لا لعلمه أو لمعرفته كما أراد الحاكم ( بورقيبة) بل مناوأة ضد الكاتدرائية على اليسار و سفارة فرنسا على اليمين) ,,, لقد وصلت الرسالة الساذجة … أعتقد ( وقد أكون مجانبا للصواب ) تمثال سبينوزا أكثر جمالا , هكذا أراه , مجردا من كل رسالة , مجردا من كل شعار , مجردا من كل مقولة , إلا من موقع سبينوزا في العقل الفلسفي البشري ( فصل الدين عن الدولة في قلب الجدل اللاهوتي)
انظروا التواضع في تمثال سبينوزا … أنظروا التصنع في تمثال ابن خلدون …. النحات الذي صمم تمثال ابن خلدون لا أعتقد أنه قرأ حرفا واحدا , لكنه قرأ الأديولوجيا الفاسدة التي عنوانها « الأصالة و المعاصرة » …. النحات الذي صمم تمثال سبينوزا فكر في الحرية , كأنه يستحضر نص « منطق الطير » لفريد الدين العطار , كأنه يقول فكر سبينوزا يبشر بجنة الحرية … فكر ابن خلدون تحول في تونس عند الجهلة إلى مجرد شعارات حزبية فارغة ( العدل أساس العمران مثلا ) شعارات عصائدية رجعية بامتياز أشهرها حزب شعبوي رجعي في الإنتخابات الماضية و حكم بها البلاد بشعار أكثر وضوحا : « الظلم مصعد للعمران / الخراب …
سبينوزا لا شعارت … تقشف في الجمال و البساطة و الحجم و الأشكال …. نساء هولانديات بإمكانهن الجلوس بقرب التمثال و هدهدة رُضّعهن
تمثال ابن خلدون… يأتيك « طحان » نزق فيعكر مزاجك … فتبول على فكرة المواطنة ( تبول عليها في عقلك) … سبينوزا فاتح مشروع الحداثة … ابن خلدون النازل في قفة من أسوار دمشق يخاطب ( مطبعا) تيمورلنك المغولي
قال لي الطبيب اليوم بخصوص الصداع النصفي لا تقرأ كثيرا لا حاجة لك في القراءة و عليك بالدعاء إن شاء الله لاباس …بخصوص الصور, صور الأشعة , فهي مجرد مقدمة لعلاج طويل , قلت له : مقدمة ؟ جاوبني ضاحكا : العلاج يبدأ بالمقدمة و الشفاء بالمؤخرة …. رن هاتفي : آلووووو … أجيب ( لا أعرف الرقم) : تفضل خويا : سي حليم , معاك سفارة هولاندة … ( بهتة) ….ألووو …. انقطاع الخط
عبد الحليم المسعودي