إلّا الفصل السادس

في الكلمة التي ألقاها يوم الخميس الماضي أمام وزير الشؤون الاجتماعية والمكلفة بتسيير وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، تعرّض رئيس الجمهورية إلى الطريقة التي تمّت بها صياغة الدستور التونسي لسنة 2014، اعتمادا على مبدأ « خوذ الفصل هذا واعطيني الفصل الآخر »، ذاكرا بالخصوص الفصل السادس منه كمثال للفصول الدستورية التي لا يُمكن تطبيقها قائلا : لو اجتمعت كل المحاكم الدستورية في العالم ما تنجمش اتطبقو

لا أحد يشكّ في أن دستور 2014 يتضمّن غموضا أحيانا وتناقضات أحيانا أخرى. كما أنه يُؤسس لنظام حكم شائك، برهنت تجربة تطبيقه خلال السنوات الأخيرة منذ صدوره على أنه نظام غير قابل للتطبيق وغير ضامن للاستقرار. وبالتالي فإن القيام بمراجعة عميقة لهذا النص أصبح أمرا ضروريّا وعاجلا. غير أن التعبير، بشيء من التهكّم، عن الاخلالات في النص الدستوري من قبل رئيس الجمهورية يتطلّب بعض التوضيحات

فبخصوص الرسم الكاريكاتوري لطريقة صياغة الدستور بالقول « خوذ الفصل هذا واعطيني الفصل الآخر » ، فيجدر بنا التذكير بأن الصيغة الأولى للدستور التي تمّ الإعلان عنها في غرة جوان 2013 كانت كارثيّة، حيث أن حركة النهضة كانت آنذاك مُهيمنة على المجلس التأسيسي صحبة حليفيْها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتّل. ولقد ساير هذان الحزبان التمشّي الذي فرضته النهضة على صياغة نص الدستور وعلى روحه بعد أن أهدت لهما رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس التأسيسي. ذلك النص الأصلي أثار ضجّة كبيرة لدى الرأي العام التونسي، ولدى الطبقة السياسية الحداثية بالخصوص، بما فيها عدد لا يُستهان به من النواب. فكان ردّ الفعل أن جمّد 41 نائبا عضويّتهم في المجلس، ثم التحق بهم آخرون إلى أن فاق عددهم الستين، واعتصموا في ساحة باردو طيلة أكثر من شهر (أواخر جويلية وكامل شهر أوت 2013)، للتعبير عن رفض نسخة غرة جوان. والنتيجة كانت سقوط حكومة علي العريض والدخول في الحوار الوطني بما فيه تشكيل لجنة التوافقات داخل المجلس بهدف مراجعة النص النهضوي للدستور. وفي تلك اللجنة، حصلت فعلا توافقات بشكل يُشبه ما عبّر عنه الرئيس بعبارة « خوذ الفصل هذا واعطيني الفصل الآخر »، حتى يكون الدستور أكثر توازنا وأقلّ رجعية. بل أنه يُمكن القول بأنه تمّ افتكاك عدد من الفصول وعدد من المبادئ من قبضة المتاجرين بالدين. وكان ذلك إيجابيّا ويخدم الديمقراطية ومصلحة الشعب. غير المشاركة في كتابة بعض الفصول بين طرفين مُتناقضين أضفى على الصياغة في بعض الأحيان شيئا من الغموض

ومن بين الفصول التي فرضها التقدّميّون في لجنة التوافقات نجد الفصل 6 الذي ينصّ على أن : الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدّسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها

هذا الفصل لم يتمكّن نواب المعارضة من فرضه إلا بعد جهد جهيد. وبفضله انتُزعت « رعاية » الدين من الأحزاب والجمعيات واللوبيات. وبفضله أيضا، أصبحت حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية مكفولة للمواطنين، خاصة فيما يتعلق بحقوق الأقليات الدينية، بما يسمح لهم التصرّف في حياتهم اليومية دون الخضوع إلى إرادة الغير، وهو ما يستوجب، على سبيل المثال، وضع حد للأمر الحكومي الجائر والقاضي بإعلاق المقاهي والمطاعم في شهر رمضان. كما أن حياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي أصبح مضمونا، أي أن على الدولة منع إدماج السياسة في الدين، حتى يكفّ الأئمّة عن دعوة المُصلّين لانتخاب حزب دون آخر، ونذكر جميعا الحملة الكبيرة التي قام بها أئمّة الجمعة لفائدة حركة النهضة في انتخابات أكتوبر 2011، حين كانوا يُردّدون : من لا ينتخب النهضة مآله جهنم

ويُضيف الفصل 6 من الدستور التزام الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح، وبمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها، وهو ما يضطرّها إلى مراجعة سياستها التربوية والتثقيفية في اتّجاه بث الفكر العقلاني، وإلى منع المدارس التي تبثّ خطاب التكفير والكراهية، بدءا بغلق مقر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الإرهابي، وبغلق المدارس العديدة الشبيهة بمدرسة الرقاب سيّئة الذكر

انتقاد رئيس الجمهورية لهذا الفصل، وبهذه الطريقة، يجرّنا إلى طرح العديد من الأسئلة. لماذا الاعتراض على هذا الفصل بالذات؟ ولماذا الآن؟ وهل النيّة تتجه إلى حذفه أم إلى تعديله؟ وهل التعديل المُزمع إدخاله سيكون في اتّجاه تطويره أم في اتّجاه الحد من الحريات التي يتضمّنها؟

إن تاريخ صياغة الفصل السادس من الدستور وما يحتويه من مبادئ يجعلنا نتمسّك بتطبيقه بحذافيره، ونحثّ السلطة التشريعيّة على مراجعة كافة القوانين المتناقضة مع نصّه ومع روحه، ونحثّ السلطة التنفيذية على تحمّل مسؤولياتها كاملة في التطبيق الحرفي لما جاء فيه، ونحثّ السلطة القضائية على تتبّع كل من خالف القيم التي أتى بها.
أما التعديل فإنه ضروري فقط من حيث جوانبه الشكليّة، إذ كان من الأجدر رفع يد الدولة عن « رعاية » الدين وحرية المعتقد والاكتفاء بالتنصيص على أن هذه الحرية مضمونة وبالتأكيد على منع تسييس الدين. كما كان من الأجدر تغيير كلمة « الدين » بكلمة « الأديان »، وتحديد مفهوم المقدسات

لم أفهم ماذا يقصد السيد رئيس الجمهورية بقوله « لو اجتمعت كل المحاكم الدستورية في العالم ما تنجمش اتطبقو ». والحال أن محتوى هذا الفصل نجده في أغلب دساتير البلدان المُتحضّرة والأنظمة الديمقراطية المدنية، ونجده بالخصوص في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

أقول، وبصوت عالٍ، نعم لمراجعة عميقة لدستور 2014، شريطة أن تكون المراجعة لا تخدم طرفا حاكما على حساب طرف آخر. كما أقول، وبصوت عالٍ أيضا، لا للمسّ من الفصل 6 منه، إلا لغاية تطويره في اتجاه مزيد من الحقوق والحريات دون وساطة ولا رعاية

بقلم منير الشرفي