إحداث «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة».. ولادة قيصــريــة متأخـرة بالفعـل و بالقــوة

* يصرّ الرئيس على اختزال حل الأزمة المركبة في المقاربة القانونية والشكلانية ويحصرها في ثقاته الطيعين من التقنيين الجاهزين لتنفيذ التوجهات الكبرى لسيادته حتى وإن كانت لهم رؤى وتجارب خاصة في وقت من الأوقات

*إن شرعية الرئيس ومشروعيته أمام اختبار صعب، قد يستقوي بمؤسسات الدولة ويستفيد من انضباط والتزام مؤسساتها ويراهن على ضعف خصومه وانشغال المواطنين بتحديات البحث عن العيش الكريم لتنفيذ حلمه كما اتفق بكل إصرار ومكابرة وهروب إلى الأمام

* الولادة القيصرية للهيئة متأخرة بالفعل وبالقوة، وليس أمامها متسع من الوقت لصياغة عقد اجتماعي جديد يفترض إما إبداعا وكفاءة شخصية، أو الجنوح إلى التشارك والانفتاح على الطاقات التي يزخر بها المجتمع

********

عندما سئل الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة عن مسار القضية الفلسطينية في آخر تسعينات القرن الماضي، أي بعد زهاء ثلاثة عقود ونيف على زيارته وخطابه التاريخي في مدينة أريحا الفلسطينية قال باللغة الفرنسية التي كان يتقنها جيّدا ـ كتابة وشفاهة ـ علاوة على اللغة العربية  متأخر جدّا.. قليلا جدّا

«Trop tard.. Très peu»

ولِيَسْمح لنا الزعيم أن نستعير مقولته اليوم ونحن نعلّق على إحداث «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة» وصدور مرسوم في ذلك يوم الجمعة 20 ماي 2022 بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية تحت عدد 30 لسنة 2022، إلى جانب أمر رئاسي حمل عدد 499 لسنة 2022، ويتعلق بتسمية الصادق بلعيد رئيسا منسقا لهذه الهيئة على أن يرأس عميد الهيئة الوطنية للمحامين ابراهيم بودربالة وفق الفصل السابع للمرسوم اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية

وكما صار معلوما، يشتمل المرسوم الرئاسي عدد 30 المحدث لـ«الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة» على 23 فصلا موزعة على 5 أبواب وهي تباعا الباب الأول المتعلق بإحداث الهيئة والباب الثاني خاص برئيسها والباب الثالث بلجنة استشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية والباب الرابع بلجنة استشارية قانونية، والباب الخامس والأخير بلجنة الحوار الوطني

وكما هو معلوم أيضا فإن فكرة إرساء هذه الهيئة جاءت ضمن خارطة الطريق التي أعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيد منذ يوم 13 ديسمبر 2021 والتي تضمنت إجراء الاستشارة الافتراضية بين الفاتح من جانفي 2022 و20 مارس المنقضي وتتولى الهيئة/«اللجنة» التأليف بين المقترحات الناجمة عن هذه الاستشارة وتنهي أعمالها قبل شهر جوان للذهاب إلى استفتاء في 25 جويلية ثم انتخابات تشريعية في 17 ديسمبر القادم

وللأسف جاءت الولادة القيصرية للهيئة متأخرة بالفعل وبالقوة حيث لم يعد أمامها متسع من الوقت في تقديرنا لصياغة دستور هو في نهاية المطاف مشروع عقد اجتماعي جديد يفترض إما إبداعا وإلهاما وكفاءة شخصية من صاحبه، أو الجنوح إلى التشارك في بلورته والانفتاح على الطاقات والكفاءات المتنوعة والمختلفة التي يزخر بها المجتمع التونسي دون أن ننسى أن الأمر لا يتعلق فقط بنص دستور قد يضعه أي فرد على المقاس ليغيّره من يأتي بعده للحكم، ولكن أيضا بجملة من النصوص الأخرى التي يقول الرئيس أن واضعيها من اللصوص والتي تنظم الحياة العامة وترتب المشاركة السياسية ولها مكانة محورية في العملية الانتخابية والاستفتاء ونتحدث هنا عن التشريعات المتصلة بالأحزاب والجمعيات وسبر الآراء والتمويل الأجنبي وغيره

ثانيا وفي مستوى الشكل دائما الذي سيلقي بظلاله على المضمون يصرّ رئيس الجمهورية على ما يبدو على اختزال حل الأزمة المركبة التي تضرب البلاد في المقاربة القانونية والشكلانية إن جاز القول ويحصرها في ثقاته الطيعين من التقنيين الجاهزين لتنفيذ التوجهات الكبرى لسيادته حتى وإن كانت لهم رؤى وتجارب خاصة في وقت من الأوقات.
وبعد تحويل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مثلا إلى «هيئة قضاة» كما أشار إلى ذلك البعض ها هو رئيس الجمهورية يضع على رأس «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة» مدرّس قانون وعميد كلية سابق، كما اصطفى عميد المحامين ليرأس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية التي تندّر المتابعون واستغربوا الخيار الذي كان من المفترض أن يؤول إلى ممثلي المنظمات الاجتماعية على سبيل المثال

إن المقدّمات التي هي ليست في صالح رئيس الجمهورية ولا في صالح الهيئة ذاتها ولا في صالح البلاد والعباد كثيرة وهو ما يجعلنا نذهب إلى التحذير من مغبة الوصول إلى نتائج عكسية لا ترتقي لحل الأزمة

إن تحجيم دور الشركاء في الوطن، أجل الشركاء في الوطن، على الأقل من الذين لم يتورطوا ولم يكونوا سببا في ما نحن فيه الآن، لهم دور ولهم مكان في الحوار المجتمعي من أجل : جمهورية جديدة

إن إقصاء الأحزاب بما في ذلك أحزاب المساندة وأحزاب المساندة النقدية يسيء لهذه الأحزاب ويحرجها ويحشرها في الزاوية وفي مقدمتها تلك الأحزاب التي أصدرت صباح الجمعة، ساعات قليلة قبل إصدار المرسوم وبعث الهيئة بيانا تناشد فيه ساكن قرطاج أن يلتفت إليها ويسرّع الخطى ويوجد لها مكانا في الحوار المزعوم

كذلك الأمر بالنسبة إلى طيف من المنظمات المدنية التي لم تتأخر في قبول «25 جويلية» رغم التحفظات وحضرت في القصر الجمهوري في 26 جويلية 2021 ولم تحظ حتى بمجرد الذكر في المرسوم كالجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات والنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين على سبيل المثال

الأخطر من ذلك «خلق» أزمة داخلية في بعض الهياكل المهنية والكيانات المدنية والسياسية، وها نحن نتابع خطورة ما يحصل في الاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري الذي صار برأسين، وقد تتطور الأمور ذاتها وبشكل آخر داخل المنظمة الشغيلة التي تعقد الاثنين 23 ماي هيئة إدارية أقل ما يقال فيها أنها ستكون «ساخنة» بعد سحب تدوينة المكلف بالإعلام في المنظمة الشغيلة و«التوضيح» الصادر عن الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل لوكالة الأنباء الرسمية، وداخل عمادة المحامين التي «ندّد» أحد أعضاء مجلسها بما حصل مذكّرا بضرورة الرجوع إلى الهياكل لاتخاذ قرار بشأن موقف استراتيجي يهم قطاع المحاماة والبلاد بشكل عام

إن ارتدادات خطوة الرئيس ووقعها سيكون كبيرا وربما مزلزلا داخل المجتمعين المدني والسياسي، وبخلاف ما قد يذهب إليه البعض من أن هكذا وضع مريح للرئيس، فإن أسوأ وأخطر ما ينسف الاستقرار والسلم الأهلي هو ضعف بل قتل الأحزاب والجمعيات والنقابات المهنية وخصوصا من يختلف مع السلطة في تقدير الموقف والخيار

وهنا، تجدر الإشارة إلى ان هذا السلوك السياسي من شأنه أن يجذّر المعارضة ويقوي الخصوم ويمنحهم المجال لتسجيل النقاط علاوة على فتح أبواب البلاد أمام التدخل الخارجي والجميع يعلم حجم الضغط المالي والاقتصادي الذي تتعرّض له تونس

قد يستقوي رئيس الجمهورية بمؤسسات الدولة ويستفيد من انضباط والتزام مؤسساتنا الأمنية والعسكرية والقضائية والانتخابية وغيرها، وقد يراهن على ضعف خصومه ـ الظرفي ـ وانشغال عموم المواطنين بتحديات البحث اليومي الصعب عن العيش الكريم لتنفيذ حلمه ومشروعه كما اتفق بكل إصرار ومكابرة وهروب إلى الأمام لدرجة صارت فيها نسبة مشاركة شعبية لا تتجاوز الخمسة بالمائة انتصارا جمهوريا من الطراز الرفيع

إن شرعية رئيس الجمهورية ومشروعيته أمام اختبار صعب، صحيح أن الاستفتاء والتصويت في التشريعية سيكون لشخص الرئيس وليس لمضمون مشروعه وهذا من أفتك مخاطر الشعبوية التي تنتهي بأصحابها على هامش التاريخ والجغرافيا المتحركة

بقلم: مراد علالة