أعمال لجنة المشبوه القوماني قد تكون هباءا منثورا

يلحظ المتابع أن مواقف حركة النهضة الإخوانية من القرارات التي اتخذها رئيس الدولة يوم 25 جويلية الماضي تتغير من وقت إلى آخر ومن قيادي إلى غيره وهو ما يخفي ارتباكا وفوضى داخلها غير أن ما استقر عليه الحال ظهر في بيانها ليوم 12 أوت الجاري ومفاده بأن تكون حركة: « النهضة مرنة في البحث عن أفضل الصيغ لإدارة البرلمان وضبط أولوياته وتحسين أدائه حتى يستأنف أدواره قريبا ويسهم في إعداد البلاد إلى انتخابات مبكرة » وهي فيما تعهدت به تختصر الأزمة التي يعيشها الوطن في أداء البرلمان والحال أن المسألة أعمق من ذلك بكثير وهو ما تفطن له التونسيون لمّا طالبوا برحيل المنظومة الحاكمة منذ سنة 2011 كاملة ممثلة في البرلمان وما تناسل منه من هيئات هي على صيغته وشبيهة به في تركيبتها وفي أسلوب أدائها وعملها، ولعل هيئة الحقيقة والكرامة وما أثارته من لغط هي أبرز الأمثلة على ذلك ولا ننسى المحكمة الدستورية التي ما رأت النور لحد الآن بجانب هيئات أخرى كشفت ميولها الإخوانية بما يقدح في حيادها

لذا لا يمكن عدّ هذا المطلب من الحركة بالعودة إلى ما قبل 25 جويلية إلا محاولة منها لاسترداد مواقع القوة التي حُرِّرت من قيدها ومُنعت من أن تستخدمها لصالح أجندتها السياسية، ففي الوقت الذي تشاهد فيه الحركة انحسارا في شعبيتها وضمورا في تأثيرها في النخب جاءت هذه القرارات لتحرمها من أهمّ مواقع التأثير ممثلة في صياغة القوانين والتعيينات في كبرى وصغرى الوظائف ممّا مكنها من حكم البلاد فقط ب 500 ألف منتخب لشعب تعداده حوالي 12 مليون نسمة، والسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن فعلا العودة إلى ما قبل 25 جويلية؟، بالطبع الجواب لن يكون إلا لا، لأن ما اتخذ من قرارات يومها ليس إلا الترجمة القانونية لطلبات جماهير الناس التي تضرّرت من حكم حركة النهضة الإخوانية طوال العشر سنوات الماضية، ولم يكن أمام رئيس الجمهورية سوى الاستجابة لذلك باعتباره الحامي لوحدة البلاد والساهر على سلامتها وهو ما لم تكن حركة النهضة تتوقعه ولا أدلّ على ذلك من الوقاحة التي كان عليها أعوانها تجاه مقام الرئاسة إذ كانت تتصور أنه لا معقب ولا ردّ ولا رفض لما تقوم به أو تقترحه وهو ما جعلها تتجاوز كل حدود اللياقة في التعامل مع الآخرين

ولعل فضيحة الهاروني الذي طالب ب 3000 مليار تعويضا لمجرمي ماء الفرق في وقت كانت الكورونا تحصد فيه أرواح مواطنينا بالآلاف أكبر مثال على ذلك، غير أن الغريب في الأمر كله أن تشكل الحركة « لجنة لإدارة الأزمة السياسية » والحال أن هذا النوع من اللجان يؤلف لحلّ المشاكل الحزبية الداخلية أما لما تكون الأزمة بين أطراف داخل الوطن فيشترط فيها الحياد ولكن في الحالة التي يكون فيها الخلاف بين حركة النهضة من ناحية وعموم الشعب من ناحية أخرى فإن اللجنة لا يمكن أن تكون محايدة إلا إذا جلبناها من الخارج لأنه لا حياد مع مصلحة الوطن وسيادته، هكذا تقترح الحركة ما يثبت مرّة أخرى أنها خارج سياق الوطن ولا تنظر إلا لمصلحة الجماعة لديها وإلا ما معنى لجنة لإدارة الأزمة بعد الزخم الشعبي الذي عاشه الوطن سندا لرئيس الدولة؟ وأي أزمة بعد قرارات 25 جويلية التي قضت على أسبابها؟، أما بالنسبة لرئيس اللجنة فهو من الشخصيات الملتبسة التي لعبت أدوارا مشبوهة قبل 2011 وبعده إذ ورد في تقرير هيئة الحقيقة والكرامة حديث عن تكليف التجمع الدستوري الديمقراطي لمحمد القوماني صحبة آخرين بافتعال مشاكل داخل الحزب الديمقراطي التقدمي لتفجيره من الداخل(1) وقد تحدثت الصحافة عن ذلك أيامها(2) كما شارك القوماني في منتدى الدوحة للديمقراطية والتطوير والتجارة الحرّة الذي حضرته وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني علما وأن القوماني أيامها كان أستاذ تربية إسلامية ولم يكلفه الحزب الديمقراطي بهذه المهمة بل أطرده بسببها وقد ذكر القوماني في تعليله المشاركة أن مهدي مبروك الذي سيصبح في حكم الثالوث وزير ثقافة كان وراءها(3)، واللافت للنظر أن القوماني تجوّل بين أحزاب وتيارات مختلفة بدأها بالاتجاه الإسلامي الذي أطرد منه صحبة احميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي لما حاولوا الانقلاب على الغنوشي وافتكاك تنظيم العاصمة منه ليلتحق باليسار الإسلامي وبأحزاب أخرى فيما بعد وفي سنة 2013 وعدته حركة النهضة بتعيينه وزير تربية ولكن علي العريض فضل عليه سالم الأبيض ليعود بعدها إلى حاضنته الأولى سنة 2016، ولا أعتقد أن مثل هذه السيرة يمكن أن تكتسب ثقة رئيس الجمهورية فيما إذا وافق على قبول هذه اللجنة وهو أمر مستبعد لأسباب متعددة من بينها أنه لا يحبّذ الأحزاب فما بالك بالمتجوّلين بينها أو بمن رضي لنفسه أن يُستأجر لتفجير بعضها لفائدة بعضها الآخر، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يجول بخاطر عاقل أن يتراجع الرئيس عن قراراته لأنها

1) مكنته من اكتساب شرعية شعبية جديدة تمثلت في مساندة كل القوى المدنية المعارضة للإخوانجية التي صوّتت للباجي في انتخابات 2014 ولآخرين سنة 2019

2) بعثت أملا لدى الشعب بالتخلص من كابوس عشر سنوات من حكم النهضة ظهر ذلك في الاحتفالات الشعبية التي خرجت بعفوية يوم 25 جويلية ليلا

3) أنهت خلافا مفتعلا أدى إلى شلل منظومة الحكم طوال السنة الماضية من طرف حركة النهضة ورئيسها الذي حاول الاستحواذ على اختصاصات غيره لتنصيب نفسه لاحقا مرشدا عاما للدولة التونسية

4) ستفتح آفاقا جديدة لتغيير الدستور والنظام الانتخابي في اتجاه يتلاءم مع ثقافتنا ومع ما تحتاجه البلاد من حزم بعد عشرية من الفوضى أدّت إلى تمكين من لم ينتخب أصلا من السلطة التنفيذية كاملة وفي نفس الوقت حجبها عن الذي انتخبه الشعب مباشرة، وهذه من غرائب الانتقال الديمقراطي في دستور 2014

عجز حركة النهضة عن استيعاب قرارات 25 جويلية يؤكد أنها كانت تعتقد بأن حكمها للبلاد سيدوم على الأقل 50 سنة ولذلك لم تتورع عن ارتكاب كل الموبقات من كذب وخيانة وغدر مستندة إلى مجموعة انتهازيين من سقط المتاع ممّن يتحولون من الموقع إلى نقيضه جريا وراء من يدفع أكثر ولكن الجماعة اصطدم برئيس حازم لا يقبل المساومة والتوافق على حساب المبادئ، جاء في المثل العامي البليغ : اللي يحسب لروحو يفضلو

بقلم أنس الشابي

الهوامش
1) المحور الأوّل « تفكيك منظومة الاستبداد » ص46 و50
2) جريدة الشروق بتاريخ 28 أفريل 2009 ص15 ومجلة الملاحظ بتاريخ 6 ماي 2009
3) مجلة رياليتي من 19 إلى 25 جوان 2008 العدد1173 ص13