حديث رئيس الجمهورية الحصري الى «فرانس 24» خارج الحدود… خارج السياق والمنطق

المناخ السياسي في تونس غير سليم… البعض يريد إحباط الجاهزية والعمل على إفساد قمة الفرنكفونية… أكره كلمة التطبيع : هذه تقريبا أهم «الأفكار» والرسائل الصادمة صراحة التي أفرد بها رئيس الجمهورية قيس سعيّد الفضائية الفرنسية «فرانس 24» في إطار حوار «حصري» و«مسجل» بثته الاربعاء 18 ماي الجاري

والحوار جاء ايضا على هامش المشاركة في قمة تمويل الاقتصاديات الافريقية التي انعقدت بباريس بدعوة من الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون وحضرها عدد كبير من رؤساء دول افريقية ورؤساء حكومات غربية وقادة مؤسسات مالية دولية واقليمية، وعلى هذا الأساس فهي مناسبة مهمة استراتيجيا من منظور صلاحيات رئاسة الجمهورية ومن زاوية التواجد على أرض أهم شريك اقتصادي لبلادنا في ظرف جد دقيق محليا واقليميا ودوليا

وفي انتظار الكشف عن مخرجات وآثار هذه الزيارة التي شهدت لقاءات كثيرة لرئيس الجمهورية سواء مع نظيره الفرنسي أو نظرائه الأفارقة فإن شكل ومضمون الحوار الى «فرانس 24» محبط في تقديرنا ومثير للجدل وحمّال قراءات متشائمة تعيد طرح الأسئلة الحارقة حول أجندة ساكن قرطاج وبرنامجه ومقاربته للعمل السياسي وإدارة الشأن العام، فهو لم يعد مدرّسا للقانون الدستوري في الجامعة ولا ناشطا حالما بالظفر بكرسي الرئاسة مراهنا على أصوات الناخبين، وإنما هو «رئيس الدولة ورمز وحدتها يضمن استقلالها واستمراريتها ويسهر على احترام الدستور» وفق الفصل 72 من ذات الدستور 

للأسف، رسم رئيس الدولة صورة قاتمة للبلاد ومخيفة ليس لشعبها فقط ولكن أيضا لشركائها وفي مقدمتهم الدولة الفرنسية، وحتى عند الحديث عن قضية الساعة، قضية فلسطين، اختار قيس سعيد الجمل الفضفاضة في وقت كان يتوجب وضع النقاط على الحروف والإصداح بالخطوات العملية التي يبدعها أبناء الخارجية التونسية اليوم في رحاب المنتظم الاممي وجامعة الدول العربية وفي العالم بأسره نصرة لفلسطين مقابل تكرار مقولة انتخابية لم يظهر لها صدى في الشارع التونسي اليوم الذي أجمع فيه الطيف السياسي والمدني على «تجريم التطبيع» في الوقت الذي يروّج فيه ساكن القصبة مقولة : الخيانة العظمى

والمؤسف ايضا أن يوصّف رئيس الجمهورية موقف تونس الداعم للقضية الفلسطينية برمّته ويختزله في حمل «بينز» العلم الفلسطيني في المؤتمر الذي انعقد بباريس -على أهميته الرمزية – ويتفاعل عكسيا مع الشارع التونسي ومشاعره المؤيدة لمشروع قانون لتجريم التطبيع قائلا «اكره كلمة تجريم التطبيع… ما معنى التطبيع هذه الكلمة …؟ هي دخيلة دخلت القاموس بعد اتفاق كامب ديفيد»، وهنا كان يفترض أن يقول الرئيس أن كامب ديفيد خيانة بل : خيانة عظمى

إن التعميم والبلاغة لا تجدي في تقديرنا في مثل هذه المحافل، كذلك الانتباه الى المطبّات والفخاخ التي قد ينصبها الصحافي المحترف لضيفه وهو فعل محمود مهنيا- وهنا لم يتمالك رئيس الجمهورية نفسه وتكلم كعادته بصراحة لم تأخذ بعين الاعتبار أنه خارج حدود الوطن وبالتالي فهو بهذه المضامين خارج السياق وخارج المنطق

لقد انتقدنا سكان قرطاج السابقين عندما جنحوا لنشر الغسيل في الخارج ويبدو أنها العملة الوحيدة الرائجة في رصيدهم وكنا نأمل أن يجتنب قيس سعيد هذا الأمر وان لا يستجير بالغير على مواطنيه علاوة على الاعتماد المتجدد لصيغة المبني للمجهول

مؤسف مرة أخرى أن يجيب قيس سعيد عندما سئل عن الاستعدادات لاحتضان بلادنا للقمة الفرنكفونية بأنه «هو» النقطة «الايجابية الوحيدة» حسب سمعنا وفهمنا للغة العربية ودلالات الخطاب فيها، فهو من اقترح «جربة» مكانا للقمة !.. أما الخطير فهو الكشف عن وجود «من يعمل على إحباط القمة… لحسابات سياسية سيأتي الوقت للإفصاح عنها وعن تفاصيلها» والحال أن رأس السلطة التنفيذية الثاني ونقصد به رئيس الحكومة رتّب مجلسا وزاريا مضيّقا قبل أيام من «رحلة» ساكن قرطاج للنظر في تقدم الاستعدادات لهذه القمة فمن هو يا ترى «الطرف» الذي يريد أن ينغّص على تونس تظاهرتها الدولية ويفسد علاقاتها مع شريكها الفرنسي؟ أبمثل هذه التصريحات تدار الدول وتعالج الالتزامات الدولية؟ ماذا أردنا أن نقول لباريس والعالم؟

أخطر من ذلك، وبالعودة الى المناسبة وهي حضور الرئيس في مؤتمر اقتصادي بالاساس، لم يتردد ساكن قرطاج في القول أن المناخ السياسي غير سليم وحسب رأيه فإن «في تونس ثروات كثيرة لكن الفعل السياسي أفسد هذه الثروات والشباب التونسي ليس عبءا لكنه لم يجد الفرصة ليعمل» ويضيف أنه من الضروري أن «تغادر السياسة قصور العدالة… لأنه عندما تتسلل السياسة إلى القضاء ينعدم العدل على الإطلاق» على حد تعبيره، وهنا سؤال بسيط، أي مستثمر فرنسي أو افريقي أو أي مستثمر آخر قد يتشجع بسماع مثل هذا الكلام ليعدّل بوصلته ويحزم أمره ويتجه للاستثمار في بلاد يقدم رمزها الأول هذا الاعتراف؟

وبما أنه لم يخرج يوما من أسر دروس القانون على ما يبدو قال رئيس الجمهورية في عاصمة الأنوار بالذات ان كثرة النصوص القانونية لا تعني وجود مجتمع القانون وعلى القانون أن يكون شعبيا وإلا فإن «مع كل نصّ.. يولد لصّ» وفق تعبيره والخشية هنا أن يأخذ شركاء تونس من الأشقاء والاصدقاء هذا الكلام محمل الجد ويعيدون صياغة مواقفهم إزاءنا على قاعدته وهو ما لا تحتمله البلاد ولا العباد.

بقلم مراد علالة