اللباس بين الوصم والتنميط والتحكم والحرية الشخصية

تساءل رولان بارط في كتابه « سيسْتَامْ دُو مُودْ » : كيف يصنع الناس المعنى بملابسهم؟ وهو تساؤل يضمر مسلمة مفادها أن للباس معنى وأن الإنسان يعمد بواسطته إلى تبليغ المعنى الذي يتحول إلى دلالة للباس. وبما أن بارط سيميائي فإنه قرأ نسق الموضة ومن ورائها اللباس عامة سيميولوجيا ، فقطعة اللباس من حيث وضعها في النسق لا تختلف عن العلامة اللغوية في جمعها بين دال ومدلول ومرجع، وباللباس يتواصل الإنسان مثلما يتواصل باللغة فيقول من هو اجتماعيا ومن هو جندريا ومن هو ثقافيا، وبه يقول اختياراته الخاصة في الحياة كأن يكون رياضيا أو شخصية رسمية، أو أن يكون منفتحا مجدّدا أو تقليديا محافظا، أو أن يكون رصينا أو متحرّرا، أو أن يكونا حريصا على مظهره الخارجي أو لا يوليه اهتماما وما إلى ذلك من المعاني والدلالات. وبالمثل يقول اللباس نفسه معاني عديدة تتراوح بين الإكراه والمنع والإقصاء والفنطازيا والقبول والتشابه والتطابق ، بل إن أنساق اللباس كاشفة عن وضعيات أنثروبولوجية وسوسيولوجية فهي تحدد الجنس والعمر والوضع المدني والوضع الاجتماعي والنسق الثقافي والعقيدة الدينية والزمن أو الفترة . وفضلا عن رولان بارط، اهتم باحثون غربيون كثيرون ومن اختصاصات متعددة من علم النفس الفردي والاجتماعي والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع بهذا الموضوع من زوايا وبمقاربات متنوعة ، بحوث تريد أن تفهم وأن تتعقل من حركة اللباس حركة المجتمع واتجاهاته وحركة الأفكار فيه ، وتسعى إلى أن تستشرف التحولات الاجتماعية والثقافية من خلال تحولات نسق اللباس وأن تستقرئ اتجاهات الأذواق والتمثلات الجمالية وتحولات الموضة حتى تضبط التطلعات وتعدّ ما يستجيب لها ويتوافق معها وتنتج ما به يتصالح كل فرد مع جسده لأنهم قوم أردكوا أن التصالح مع الجسد مدخل للتصالح مع كل أبعاد الكيان الفردي وللتصالح مع الآخرين ومع المحيط بكل عناصره ومكوناته

ماذا عن البحوث العربية والإسلامية في هذا المجال؟ لا شيء أو يكاد، فباستثناء بعض الدراسات الجزئية ذات المنحى التاريخي الوصفي والتوثيقي لا نكاد نجد سوى موضوع واحد، أو بالأصح سوى قطعة واحدة من اللباس كادت تستغرق الاهتمام: إنه حجاب النساء، والخطابات بشأنها مشدودة بين قطبين :الفرض والإنكار، أما المعالجة ففي الحالتين فقهية أخلاقوية غالبا تؤسس حقلا معجميا يدور على الواجب الشرعي وإنكاره، والحرام الحلال والمكروه والمستحب والستر والعفة والتحرر وما إلى ذلك مما لا صلة له بالتفهم والتعقل . ولعل أعلى الأصوات في هذه الجلبة هو الصوت القادم من كهوف العصر الوسيط الإسلامي، عصر التراجع الحضاري الشامل والانحطاط الكامل، ذلك العصر الذي لم تعد فيه النساء وحدهن محجوبات بالجلابيب والأخمرة بل صار فيه الجميع متجلببين بجلبات الجهل وصار فيه العقل متخمرا بخمار الانغلاق والجمود. في سياق هذه الجلبة يستحيل التفكير في أن اللباس علامة بل هو أظهر أشكال الوصم والتنميط : لباس الستر والعفة ولباس كشف العورات ، وعندما يكون كل جسد المرأة بمقتضى هذا النمط من التفكير عورة فإن مقتضى الستر أن يغطى كله، وأن تسدل عليه الجلابيب الواسعة حتى لا يبين عن أي شكل وما ضر إن كان وجه المرأة فتنة كله أن يخفى وتسدل عليه البراقع، بل إن في عينيها فتنة قد تطيح بأصلح الرجال فكيف لا تستر؟ وما دام الجسد الأنثوي الغض الفاتن يثير فنطازمات الرجال الصالحين الأطهار فالواجب أن يستر اتقاء لفتنه ولو كان جسد طفلة . وما ضر لو تحول هذا الجسد إلى « رزمة من القماش » كما قال شيخنا الثعالبي طالما أن الغاية اتقاء الفتنة وحماية صلاح الرجال؟ لا أحد من هؤلاء افترض أن هذا النوع من اللباس الأنسب للإخفاء لا يخفي الجسد فحسب بل قد يخفي أيضا الأفعال صالحها وفاسدها ويخفي هوية الفاعلين عن عين الرقيب ولعلكم تعرفون مثلما أعرف شيئا مما يتخذ هذا اللباس لإخفائه ، لا أحد من سجناء هذا النمط من التفكير افترض إمكانية أن تكون « عفّة تقوم في صدور النساء والرجال لا عفّة مضروبة بالباب المقفول والثوب المسدول » على قول الرجل الصالح محمود محمد طه، لا أحد يفترض إمكانية أن تكون تلك الموصومة بلباسها « الفاضح أو العاري أو الكاشف » والمتهمة ضرورة في أخلاقها أعف وأطهر وأنقى من تلك المتوهّمَة عفتها بمجرد لباسها. هو الوصم والتنميط إذا استحكما بالعقول فعطلا فيها ملكة التفكير . لذلك نتعحب أن أولئك المحكومين بهذه التصورات البائسة هم أنفسهم من يدافعون اليوم عن حرية اللباس وعن كونه « حرية شخصية » وأصواتهم لا ترتفع بهذا الدفاع إلا متى تعلق الأمر بتحجيب النساء والبنات، ولو كن طفلات لا يميزن. وأعتبر هذا الدفاع عجيبا لأن صاحبه لا يعي المفارقة التاريخية والذهنية بين مبدأ اللباس حرية شخصية يجب احترامها مثلما تحترم سائر الحريات الفردية ومبدأ التحجيب القائم على التسليم بأن الجسد الأنثوي عورة يجب سترها وفتنة يجب اتقاء شرها بإخفائها بالثوب المسدول. فمبدأ الحريات الفردية يناهض جوهريا وبنيويا كل أشكال وصم الأجساد وتنميط الأشخاص على أساس لباسهم أو شكلهم ويتناقض مع كل أشكال القهر والتمييز والدونية المسلطة على النساء أجسادا وكيانات إنسانية. وهل هناك أعنف وأكثر تناقضا مع كل مبادئ الحرية من التحكم الذكوري في أجساد النساء واتخاذه مدخلا للتحكم في كيانهن ؟ هذا العنف ا نراه يسلّط على طفلات لا يميزن ، وبطرق « ناعمة » يمارسها أقرب الناس لهن حتى ينتهي الأمر باستبطانهن ذلك التحكم والرضا به والدفاع عن مشروعيته وإعادة إنتاجه . يكون اللباس حرية شخصية حقا عندما يدرك المرء دلالاته الحقيقية والوظائف التي يؤديها ويختار بحرية حقا، وفقا لشروط الفعل الحر، وبمعرفة ووعي. وقد يكون ارتداء هذا اللباس المسمى حجابا، أيا كان شكله، حرية شخصية ندافع عندما تعرف المعنية بالأمر أن دلالاته مستمدة من اعتبار جسدها عورة ومن « وعي ذكوري » لا يهدده في الحقيقة الجسد الأنثوي ذاته بالافتتان بل يهدده بذلك أنه لا يحتكم إلى العقل ولا إلى القيم التي يدعي الدفاع عنها بل إلى غريزة يطلق لها العنان فلا يميز بين « محجبة » و »سافرة »، عندما تعرف البنات والنساء أن الحجاب استعملته النظم الذكورية على مر التاريخ من أجل السيطرة على النساء والتحكم فيهن، وتكون من تختاره على دراية بذلك لاعتقادها أنه مفروض عليها شرعا وهي واعية راشدة مميزة تملك قرارها فعلا ، عندها سندافع عن الحجاب باعتباره حرية شخصية

بقلم زهية جويرو