الثورة حين تجوع تأكل أبناءها

يظن البعض أن الأزمة التونسيّة سياسيّة فيكفي إصدار بعض القرارات السياسية أو تغيير نمط الحكم أو إدخال تعديلات على الدستور أو استبداله بدستور جديد لحلّ المعضلة. الأزمة التونسية أعمق من ذلك، إنها أخلاقية تتمثل أولا في تزايد العاطلين المتروكين بلا تغطية صحية ولا حد أدنى من الكرامة والحرمة والحق في الحياة. والأزمة التونسية تتمثل في اقتصاد جامد وتنمية تراجعت بشكل مرعب فارتفع بذلك العنف المجتمعي والتفاوت والتمييز، وللمتأمل في تاريخ هذا التراجع أن يعود به إلى سنوات خلت عندما اندلعت لأول مرة شرارة الاحتجاج ضد سياسات الدولة التي همشت جهات تملك ثروات عديدة ولم تحدث التوازن المطلوب والعدالة بين المدن والقرى والداخل والساحل ولم توزع الفرص المتكافئة على كل أفراد الشعب بما يجعلهم قادرين على إيجاد الحلول للفقر والبطالة المتسارعين

إن الأزمة في عمقها تتعلق بمنوال تنموي عجز عن تحقيق بنية اجتماعية صلبة في الجهات الداخلية قادرة على تحقيق الاستقلالية التامة عن المركز الحاكم وأن تتطور بمقتضى المتطلبات العصرية بما يحقق لها التوازن المطلوب، ولذلك فإن تبني الرئاسة التونسية اليوم خطاب الاحتواء الشعبي لصرخة الهامش على المركز تعني فيما تعنيه أنّ ذلك الهامش صار في قلب المركز دون قدرة حقيقية على تغيير الوضع وحلحلته. فها قد غير الرئيس موعد الاحتفال بثورة لم تعط ثمارها لمن قام بها من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر ولكن ذلك الموعد الجديد لم يفتح أبواب المعجزة التي ينتظرها المحتجون والعاطلون عن العمل والغاضبون من الشباب المفقر المحروم من حقوقه المواطنية في الحياة والشغل والكرامة. وها قد أعلن الرئيس عن حوار معهم وتواريخ معينة لإجراء استفتاء وتعديلات ولكن كل ذلك لن يغير شيئا في الواقع لان الواقع الاقتصادي الوطني تتحكم فيه معطيات من جنس الحقائق المؤلمة: عجز مالي، تنمية متجمدة، اقتراض وديون من جهات لها شروطها المكبلة، تداعيات الكوفيد، الثمن الباهض لتوقف إنتاج الفسفاط والغاز وللاحتجاجات الاجتماعية التي من نتائجها تنفير الاستثمار وتعطيل الاقتصاد وتراجع التنمية وازدياد العجز. مؤسسات مفلسة وأعباء متزايدة وراسمال وطني يستثمر في الربح السريع والمضمون ولا يغامر بالاستثمار في مشاريع لا تجلب الربح السريع لكن لها القدرة على تغيير خارطة التنمية الاقتصادية على مدى بعيد. عجز الدولة عن توفير الشغل في الوظائف التقليدية بعد استنزاف الإدارات والمؤسسات بتعيينات ذات طابع اجتماعي. عجزها حتى عن التحكم في أسعار الحديد والدجاج المصنع وتوفير الزيت وتعديل الأسواق بما يناسب المواطن البسيط. عجزها عن حماية عمالها المستضعفين المفقرين المستغلين من السوق من النساء الفلاحات والعاملات والعمال وضعاف الحال. وما ينجر عن كل ذلك من عنف في داخل المجتمع

لكل التغييرات الاجتماعية أثمان تدفعُ على حساب فئات لا تتمكن من الوصول إلى ثمار ما انتفضت من أجله، فإذا بنا بعد عشرية كاملة نجد أنفسنا أمام انسداد سياسي واقتصادي وما يستتبعه من انسداد في كل المجالات. فترتفع قيم السوق على حساب العدالة والمواطنة والمساواة

هل يكمن الحل حقا في فتح حوار جديد حول دستور قضينا في كتابته سنوات وآلاف الدينارات وتم حوله اتفاق نسبي؟ وهل مازال الشباب التونسي قادرا على دفع المزيد من سنوات في الشوارع ليحتج ضد هذا وذاك تاركا أجمل سنوات العمر تتسرب كالرمل؟ وهل مازلنا قادرين على تعطيل الإنتاج وقطع الطرقات وحرق العجلات المطاطية وقد فوتنا على أنفسنا سنوات من الانكباب للإصلاح والبناء؟ قد تكون الأزمة التونسية أعمق مما كنا نظن إذا نظرنا إليها على أنها نابعة من مخيلتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية لا من واقعنا، فنحن نتخيل أنفسنا فرقا ومذاهب، زعماء أوحدين وأبطال محنكين لا قبلنا ولا بعدنا، خير من خلق الله وما لم يخلق، ونتمثل الدولة بقرة حلوب لا يشحّ ضرعها ونحن أطفالها الذين لا يكبرون لا يمكننا العيش إلا بامتصاص ذلك الضرع السحري الذي لا يجف

وأما مسؤوليتنا عن إصلاح الحي أو البيت أو المدينة أو إيجاد حلول جماعية لمن يحيط بنا من أطفال ومن شباب ومن مهمشين ومحاولة خلق حلول بديلة لإعادة بناء مؤسسات صلبة قادرة على استيعاب تحديات العصر الجديد فإن ذلك ليس في أولويات مخيالنا المريض بالخطابة والزعامة. إن عقلية المجتمع التونسي برمتها بحاجة إلى ثورة عليها: ثورة على مافيها من وهم الزعامة البالية والبطولة الخارقة والاستثناء العجيب وانتظار العطايا والمعجزات دون بذل الكد والجهد والبحث عن حلول تنبع من الذات المريدة الحرة المبدعة

إن ثورة لا تحطم قيود الأبوةـالأمومة العقيمة ولا تزال تنظر للحل على أنه سيأتي بقرار من فوق مآلها أن تأكل أبناءها واحدا تلو الآخر لأن الثورة حين تجوع من قيم الإرادة تأكل أبناءها

بقلم زينب التوجاني