السيدة أميرة بوراوي، صاحبة الجنسية المزدوجة الجزائرية الفرنسية، سافرت من تونس إلى باريس. الخبر لا أهميّة له إن لم تنجرّ عنه أحداث خطيرة ليس أقلها التوتّر الشديد في العلاقات الجزائرية الفرنسية، وتوتّر بين تونس والجزائر سرعان ما تمّ تجاوزه
الذين يعرفون خفايا هذه الحادثة والهوية السياسية لهذه المرأة لم يحصلوا عليها إلّا بالبحث والتمحيص في وسائل الإعلام الأجنبية. لكن، ماذا تُمثّل هذه المرأة بالنسبة للجزائر ولفرنسا؟ أي دور للدولة التونسية في هذه الحادثة؟ وماذا قامت به تونس بالضبط في عملية تسفيرها إلى باريس، وعلى أي أساس قانوني؟ أسئلة لا تبحثوا عن أجوبة واضحة ومُقنعة لها، لا لشيء سوى أن الدولة التونسية لا تأبه بالرأي العام، ولأن المسؤولين يعتبرون شعبهم شعبا قاصرا لا يستحق أن تكون لديه الأمور واضحة وصريحة
التساؤل حول أميرة بوراوي ما هو إلا واحد من التساؤلات اليومية التي تشغل بال المواطن التونسي والتي لا يجد بخصوصها جوابا ولا تفسيرا بشكل رسمي. فلا أحد مثلا يعرف أسباب غياب وزير الداخلية عن لقاء رئيس الجمهورية مع إطارات الوزارة في مقرّهم. ولا أحد يعرف شيئا عن أسباب إقالة بعض الوزراء، الخ
شحّ المعلومة يفتح منطقيّا الباب على مصراعيه أمام الإشاعات. وهي التي كانت إلى زمن غير بعيد الملاذ الوحيد لكل من يبحث عن خفايا الأحداث، إلى أن نزلت علينا صاعقة المرسوم 54 الذي جعل كل مُتكلّم يُدير لسانه في فمه سبع مرات قبل أن يقول صباح الخير
أمام هول الأحداث وكثرتها وخطورتها في الفترة الأخيرة من إيقافات ومحاكمات، وحيث أن مصدر المعلومة انحصر في الكلام الذي يقوله رئيس الجمهورية أمام زائريه، ونظرا إلى الغموض المعهود لخطب الرئيس الذي يتحدّث « عنهم » في كل مناسبة، علما بأن ضمير « هم » يدلّ على أناس يتغيّرون من خطاب إلى آخر ومن سياق إلى آخر ومن مخاطب إلى آخر، فإن الإشاعات، التي أراد المرسوم 54 القضاء عليها، ازدادت بشكل غير مسبوق. فلقد تغيّر شكلها إذ انتقل من الصحف والإذاعات والفايسبوك إلى الخطاب المباشر بين الناس. فلم نعد نسمع في الشارع وعند الحلاق ومع سائق التاكسي وفي أروقة المغازات الكبرى إلّا للتحاور بين المواطنين حول التأويلات الممكنة بخصوص الأحداث المتسارعة. تأويلات تصل أحيانا إلى ما يفوق الخيال. فهذا يتحدث عن مُتّهم قرّر أن يرتفع سعر كيلو البطاطا إلى أكثر من خمسة دنانير، وذاك يتكلّم عن مُتّهم كلّفته دولة أجنبية باغتيال شخصية هامّة في البلاد، إلى آخره من الخرافات التي ينسجها أفراد الشعب فيما بينهم من وحي الخيال بسبب غياب المعلومة الصحيحة والدقيقة التي ما انفكّ يحجبها المسؤولون عنهم
غياب المعلومة الرسمية من قبل المسؤولين أصبح يُشكّل مُعضلة حقيقية في التواصل بين السلطة والشعب. والمصدر الرسمي الوحيد للمعلومة بقي صفحة الفايسبوك لرئاسة الجمهورية حيث يتمّ الحديث بشكل غالبا ما يكون غامضا ومُوجّها، وأحيانا مُتشنّجا، وهو مصدر لمواقف رئيس الجمهورية من قضايا مجهولة أكثر من أنه مصدر للمعلومة
الحلّ أمام هذا الوضع هو الاعتماد على الصحافة والصحافيين الذين برهن العديد منهم على مهنيّة فائقة، والذين أصبحوا اليوم وأكثر من أي وقت مضى مُطالبين بالقيام بمجهود مُضاعف للحصول على المعلومة ولتقصّي الحقائق ولتحليل الأحداث ولتفسيرها للمواطن المُتعطّش للحقيقة ولفهم خلفياتها. لكن ذلك لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان الإعلام حرّا طليقا ولا يتعرّض إلى أي نوع من الضغوطات. غير أن ما يحصل منذ فترة يحدّ من هذه الحرية بشكل مُلفت للانتباه
فعلاوة عن المرسوم 54 الذي يحدّ بشكل كاريكاتوري من حرية التعبير، لما يتضمّنه من فصول زجرية مبالغ فيها، ها أننا نشاهد « محاسبة » البعض عن التعبير
فبعد إيقاف المدير العام لأكبر محطّة إذاعية في تونس للتدقيق معه، طيلة أيام، حول الخط التحريري للإذاعة، ها أن الأمين العام للحزب الاشتراكي يُدعى للتحقيق بخصوص تصريح أدلى به إلى إحدى القنوات التلفزية منذ أربع سنوات… نعم منذ سنة 2019
وليس من الغريب أن نشاهد ردود فعل حول هذا الوضع، مثل عديد العرائض الممضاة من أحزاب وجمعيات وشخصيات وطنية تُطلق فيها صيحة فزع حول المخاطر التي أصبحت مُحدقة، يوما بعد يوم، بمجال الإعلام، تلاها يوم الغضب الذي نظّمته نقابة الصحافيين في القصبة دفاعا عن المهنة وعن حق الصحافيين في القيام بمهامّهم وفي ممارسة مهنتهم ودفاعا عن حق المواطن في الإعلام الحر
صحيح أن الدستور لا ينصّ على الإعلام كسلطة، لكنه سلطة قائمة في جميع أنحاء العالم، وسيبقى كذلك
بقلم منير الشرفي