نهاية المثقف العربي والمغاربي

إنها الساعة

كتب نيتشه في كتابه « العلم المرح »، « مات الإله! … ونحن من قتلناه! … ألا يجب علينا أن نصير نحن أنفسنا آلهة لمجرد أن نبدو جديرين بهذه الفعلة؟

بعد موت الإله فلسفياً هل العالم اليوم يمشي في جنازة « المثقف » اجتماعياً وسياسياً وحضارياً؟ ذلك المثقف الذي قتل الإله لينصب نفسه إلهاً جديداً ليعيش موتاً آخر

هل هي نهاية المثقف؟ ألم يكن نيتشه وهو يتحدث عن موت الإله كان يعلن نهاية المثقف صانع الإله وقاتله في الوقت نفسه؟

أليس ما نشاهده اليوم في زمن التكنولوجيا المعقدة زمن الذكاء الاصطناعي « المؤنسن » والخطير، ألم يتحول زمننا هذا إلى زمن ولادة إله جديد بدين جديد هو « التكنولوجيا »، إذ لا أحد يمكنه أن يتوقع ما سيحدث جراء ما يبدعه الإنسان وشريكه « الذكاء الاصطناعي » « المؤنسن » الذي يستقل عنه أكثر فأكثر

ألسنا في مربع زمني وتاريخي وحضاري أصبحت فيه الآلة التي تفكر و »تحس » و »ترشد » و »توجه » ولا تخطئ إلا قليلاً هي من يتولى المكانة التي لطالما كانت من صلاحيات المثقف؟

أليس المثقف هو من يصنع ومن ذكائه ما ينوب عنه وهذا النائب هو من يقتله في الوقت نفسه، إذ يدفع به إلى الهامش واللاجدوى؟

وإذا كان المثقف في الدول المتقدمة كاليابان والصين وأميركا وروسيا وأوروبا يعيش موتاً فلسفياً بمقاسات الزمن الجديد، أي الموت التكنولوجي، فإن المثقف العربي والمغاربي يعيش موتاً آخر له مواصفاته وله أسبابه مرتبطة بواقع هجين تتعايش فيه الأزمنة كلها من العصر الحجري مروراً بالعصر الجاهلي وحتى العصر الراهن؟

أمام هذه الهجنة الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية ما علامات موت المثقف العربي والمغاربي؟

من علامات موت المثقف عندنا وهذا هو الأخطر أنه لا يعلم أنه ميت بأنه كائن منتهي الصلاحية، وفي موته الذي يجهله تراه يمارس « سلوكاً » يعتقد أنه ثقافي وربما إصلاحي، وهو في ذلك وبذلك يمارس نوعاً من الدجل ومن الغربة الوجودية

من علامات موت المثقف العربي والمغاربي أنه كلما تعقدت المسالك أمامه نظراً إلى غربته الفكرية عما يحصل في العالم، فإنه يعود للحفر بكل شهية في مقبرة الفكر المحلي ليخرج بعض « بقايا الهياكل الفكرية » ليتغذى منها ومنها يغذي المواطن والمجتمع

من علامات موت المثقف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنه أصبح يعيش زمنه بالوكالة، فهو من جهة يسب الغرب الذي أصبحت مفاسده كثيرة، ولكنه ينسى بأنه يسب هذا الغرب من خلال ما أنتجه من هذا الغرب
موت المثقف عندنا تتأكد منه من خلال الحرب التي يقودها ضد الآخر ضد المختلف، يقود هذه الحرب بعقلية « داحس والغبراء »، أو بعقلية « داعش والخرباء »، على المستوى الأخلاقي والاجتماعي والديني والثقافي
من علامات موت المثقف العربي والمغاربي هو أنه يرحل فكراً أصبح سراباً من زمن ولى إلى زمننا الحاضر، من أجل معالجة أمور هي غاية في التعقيد الحضاري والسيكولوجي والسياسي

من علامات موت المثقف العربي هو أنه يفكر في استرجاع الماضي أكثر مما يفكر في امتلاك المستقبل، وهو في ذلك ينسى حاضره وبالتالي فهو يمشي في جنازته من حيث إنه يعيش زمن الموتى لا زمن الأحياء، ويدافع عن المقبرة لا عن المدينة

من علامات موت المثقف عندنا هو أنه يبحث في صناعة الأعداء أكثر ما يبحث عن صناعة مفردات الحوار من الآخر المختلف الذي هو جزء منه، وهو في هذه الحال يعيش عزلة « المنتحر » الممجد لذات منفصلة عن التاريخ وعن صناع الحياة

من علامات موت المثقف هو أنه يبدع في البكاء على الأطلال أكثر ما يفتح باباً للأمل والاجتهاد والعمل

حين يبدأ المثقف، وهذه حاله عندنا، في اعتبار الموت بداية عالم جديد، بل هو العالم الحق، فاعلم أن هذا المثقف هو وراء تفشي « ثقافة معاداة الحياة »، ومن يعادي الحياة فهو في عداد الموتى
حين يدعو المثقف إلى تبجيل الموت، وتبخيس الحياة بالدعوة إلى « الجهاد »، فهو في ذلك يعبر عن خوفه وكراهيته للحياة بكل ثرائها وتناقضاتها ومفاجآتها، وما هذه إلا صورة بينة عن الاستلاب التاريخي والحضاري

حين يضع المثقف الدين في مركز التفكير وفي مركز السلوك، ويدعو إلى فرض ذلك على الغير، فهو يعلن موت الدين أولاً، لأنه يخرجه من مكانته التي يحق له التربع عليها إلى مكانة أخرى ليست من جغرافيته، وبقتل الدين الذي هو « المركز » بالنسبة إليه فإنه يقوم بقتل نفسه

من جهة أخرى حين يبدأ المثقف في التفكير المرضي في « الولد » قبل وأكثر من التفكير في « المواطن »، فهو بذلك مصاب بعطب القبيلة والدم والأنانية وهو موت بلون آخر، هذا لا يعني الدعوة إلى « موت الأسرة » ولكن يعني ربط « حياة الأسرة » بحياة المجتمع

حين يبدأ المثقف في التفكير في أساس « بيته » أكثر ما يفكر في أساس « الوطن » في مثل هذه الحال، فهو يرى الوطن مزرعة يجب أن تكون ملحقة بالبيت، هذا لا يعني أبداً أنه ليس من حق المثقف العيش تحت سقف كريم، ولكن شرط ألا يتحول هذا إلى هاجس يحجب عنه النظر إلى ما هو أبعد من الحديقة الخلفية لبيته
إن الأوطان ليست « بيتاً صغيراً بين الأعشاب » كما تصورها أحلام المثقف الاستهلاكي، الأوطان خيمة الجميع، بيت من دون باب ولا مفاتيح خاصة

حين يتحول المثقف إلى منافس لـ « البلوغور » « للمؤثرين » في شبكات التواصل، فاعلم بأنها الساعة حانت ولا مراد لأمرها، وهو ما نعيشه اليوم في علاقة المثقف بالمحيط الاجتماعي والثقافي

حين يفتخر كاتب ما بأن له من « الأتباع » ملايين أو آلافاً مؤلفة، ولا يبيع من كتبه أكثر من 100 نسخة، فاعلم أن موت المثقف واقع، وأن الوهم فاق الفكر

حين يتحول المثقف من كائن يسعى ويفرح بأن تقرأ كتبه ومقالاته إلى « كائن » يبحث عمن « يعبده »، من يجعل منه « صنماً »، وهذه حال المثقف عندنا، فاعلم أن هذا المثقف على سكة ومصير إله نيتشه

حين كان قاسم أمين أو طه حسين على سبيل المثال نموذجين للمثقف، كانت السهام الجارحة الموجهة إليهما لا تتوقف، المثقف الذي يبحث عن إرضاء الجميع هو مثقف « ميت » لأن الأموات هم وحدهم الذين لا يتعرضون للنقد

حين يحاول المثقف العربي أو المغاربي أن يتحول إلى « مثقف خارق » أو بتعبير نيتشه (الرجل الخارق)، يفهم في الدين وفي القضية الفلسطينية وفي فرائض الوضوء وفي نظريات السردية وفي دروس السيميائية، فاعلم أنه في طريق البحث عن « غواية » الألوهية التي هي مأزق المثقف ونهايته

لقد تحول المثقف إلى « مهرج » سياسي واجتماعي من دون أن يعلم أنه على خشبة يؤدي دوراً بئيساً في مسرحية ضعيفة في المعنى وفي الإخراج

حين يصبح المجتمع من دون معنى فاعلم أننا نمشي في جنازة المثقف النقدي الفاعل، وهذا ما هو حاصل في المجتمعات العربية والمغاربية

أمين الزاوي