الإعلام بين مساندة حرية التعبير والتطبيع مع الأصولية الدينية

منذ سنوات عديدة، كنت كلّما أشاهد أو أنصت إلى حوار يُدعَى فيه ضيف ينتمي ويدافع عن ولاءه للأصولية الدينية، في العَلنِ أو في الخفاء، يتبادر إلى ذهني سؤال مُهمٌ جدا، أهملتُ التفكير فيه وطرحه، سواء عن وعى أو عن غير وعى، وهو: متى تبدأ حرية التعبير وأين تنتهي حين يتعامل الإعلام مع الأصولية الدينية؟

أشعر اليوم أنه حان الوقت لطرح هذا الموضوع ذو الأبعاد المتعدِّدة والشائك، لأن عدم تحمل مسؤولية طرحه، هو بمثابة المشاركة في جريمة في حق شعب أعزل لا يمتلك الأدوات التي تسمح له بحماية نفسه ضد غسيل الدماغ الذي يُمَارَسُ ضده منذ أكثر من عشر سنوات بصفة يومية

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل كان الإعلام على علم ووعى بخطورة ما كان يقوم به لما كان يستضيف يوميا، سواء على شاشات التلفزيون أو على أثير الإذاعات، مُمثلين عن الأصولية الدينية الذين تاجروا بالدين للدفاع عن ولائهم لبرنامجهم الأخطبوطي للتحكم في كل مفاصل الدولة، والتغلغل في جسد الأمة

فإن كان الإعلام على علم بما قام به، فهي جريمة مُكتملة العناصر، وإن لم يكن واعٍ بما فعله، فالجريمة أخطر، لأنه سوف يواصل القيام بها، حتى بعد أحداث 25 جويلية. وتِعلة أن الأصولية الدينية هي التي فرضت تواجدها اليومي في الإعلام، لا تستقيم بعد أن خرج الشعب التونسي يوم 25 جويلية، وبدأ في إحراق مقرات الحزب الموالي للأصولية الدينية، مُعبِّرا بفطرته وذكائه الوجداني عن رغبته في التحرر من قبضة هذا الحزب

ولولا تدخل رئاسة الجمهورية في الساعة العاشرة ليلا، لما بقي مقر لهذا الحزب في اليوم الموالي. وبالتالي من الصعب تصور أن تكون هذه الجريمة عفوية أو إعتباطية، وغير مُمَنهَجَة

وبناء على ذلك، وجب على الإعلام أن يَعي أنه، لما يُوفِّر الفضاء لأي شخص لبثِّ أي رسالة أو فكرة أو أيديولوجية، فهذه الرسالة لا تصل ولا تُفهم بنفس الطريقة التي قُدمت بها، لأن الشعب التونسي موجود في مستويات مختلفة على سُلَّمِ « إطار ديناميات النمو »، وفهمه مرتبط بولاءه لإحدى تلك المستويات. زد على ذلك أن شعبنا ليس على نفس درجة الوعى والإدراك للرسائل التي تُقدم إليه، ولا يمتلك الأدوات التي تسمح له بالقراءة بين السطور، ولا بإستنباط المشاريع الخفيّة التي تُحاك ضده وخاصة ضد حقوق نساءه وبناته. بل أكثر من ذلك، فهو يُمكن أن يصدق شعارات مثل: « الإسلام هو الحل » ظنا منه أن رافعي هذا الشعار سوف يطبقون فعلا القيم التي بني عليها الدين الإسلامي، لكن أفعلهم برهنت على عكس ذلك تماما

وحين أتحدث عن إفتقاد الأدوات، لست أُشير إلى المستوى التعليمي، أو الشهادات العلمية، بقدر ما أتحدث عن الذكاء الوجداني المُتَكَوِّن أساسا من الوعي بالذات، والوعى الإجتماعي… علاوة على ذلك، إنه بإستضافته للمتاجرين بالدين، فإن الإعلام يُعطيهم مصداقية كبيرة، لأن الأشخاص فاقدي أدوات القيادية، ليست لهم القدرة على تقييم شرعية تواجد مُمثلين عن الأصولية الدينية في أي فضاء إعلامي، سواء كانوا ضيوفا أو مشاركين أساسيين. وهنا يوجد فرق شاسع بين أن يستغل هؤلاء فضاء التواصل الاجتماعي الحر، الذي لا يعطيهم أي شرعية، وبين دعوتهم على القنوات العمومية أو الخاصة، نظرا لإستبطان الشعب التونسي في لاَوَعيِه فكرة أن كل ما يُقدم في الإعلام هو بالضرورة صحيح، وكل ما يقال، لديه مصداقية

وبالتالي مواصلة الإعلام في إعطاء مساحة ومِصدَح يَستغلّه دعاة هذا الحزب بوقَ دعاية كي يَبثوا سُمومهم ليلا نهارا ويوم الأحد، لا يمكن أن يُفسَّر إلا بأنه عملية تطبيع مع الأصولية الدينية، ومشاركة في الجريمة ضد شعب أعزل من كل مقومات الإدراك. شعب عبثت به رياح الرجعية الإنتهازية والفساد بشتى أنواعه، جرَّدته من حقه في العيش الكريم وحتى في الحلم بغد أفضل. شعب فقد بصيرته وأصبح تائها في خضم معترك حياة مريرة يقضيها في البحث عن سبيل لدفع فواتير الكهرباء والماء مع هاجس يومي يقبض على أنفاسه، من أن تُقطع عنه من ناحية، ومن ناحية أخرى، أن لا يتمكن من توفير دراسة وصحة ومأكل وملبس لائقين لأفراد أسرته. حياة بائسة يائسة محبطة تسبَّب فيها كل من تقلد منصبا! فالكل شريك في جريمة تجويع وتفقير شعب بأسره، ولم تكن لأي منهم، إلا ما ندر، ذرة كرامة لتقديم إستقالته تعبيرا عن رفضه أن يكون شاهد زور، سوَّقَ لنظام حكم فاشل، عاجز، وردىء إلى حدِّ الغثيان

وإستعمالي لمصطلح « التطبيع » هو عن قصد وإدراكٍ مني لما يحمله هذا المصطلح من معاني وأيضا للوقع الذي يحدثه في وجدان ومخيال كل تونسية وتونسي! كما أنني أعتبر أن هذا التطبيع بمثابة من يفسح المجال للسرطان أن يدخل خلسة لأي جسد مُتعب، مُنهك، أعزل، قصد تدميره كليا. وبالتالي، لا يمكن للإعلام أن يُنكر مسؤوليته وأن يَدَّعي أنه لم يكن يعلم حجم الخطإ، لا بل الخطيئة التي إرتكبها بقبوله فتح فضاءه لإرهابيين إلتحفوا بجبة دين إبتدعوه، وتعمّموا بفقه لا يفقهون منه شيء وتحجَّبوا بقناع النفاق وإستهبال الأغلبية ولا يزالون

فكلما أنصت إليهم ولكل إعلامي يحاورهم، ينتابني شعور بالتقزز من هول الكذب وإزدراء الحقائق وقبح التبريرات، وتغليف الوقائع بغلاف الزور والتحيل وإستغفال السذجاء. وتجدر الإشارة في هذا الإطار، إلى أن من أوجه نفاقهم، إختيارهم لمصطلح « التمكين »، الذي لم يكن إعتباطيا لِمَا لترجمة هذا المصطلح باللغة الإنجليزية من معانٍ إيجابية، أرادوا التمويه بها وإخفاء نواياهم الحقيقية ومشروع تنظيمهم الدولي الخفي. ولقد إنطلت الحيلة على العديد من المانحين والخبراء الأجانب

لا يمكن للإعلام أن يتخفى وراء الدفاع عن حرية التعبير، فهو كمن يَسمَح لتجار المخدرات ببيع سُمِّهم القاتل أمام المدارس بتعلة حرية البيع والشراء. ولو أن الأكيد أن الأحزاب السياسية تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية فيما وصلنا إليه، فللإعلام أيضا دور كبير أصبح من الضروري فضحه والتنديد به. ومن ناحية أخرى، أن تسمح رئاسة الجمهورية، بعد قرارات 25 جويلية، بأن تواصل الأصولية الدينية بكل تفرعاتها وتشكيلاتها، في الظهور في الإعلام، علاوة على المواصلة القيام بأنشطتهم… لا يمكن أن يكون له العديد من التفاسير

خمسة أشهر مضت دون إيقافهم عن إيذاء الشعب التونسي ودون محاسبتهم وإجبارهم على إرجاع كل الأموال التي نهبوها والوظيفة العمومية التي أغرقوها والشباب الذي همَّشوه والنساء اللاتي إستعبدوها… خمسة أشهر مضت دون إعطاء أي تفسير يمكن أن يُشفي غليل شعب أعزل، ينتظر أن تُوفر له الدولة الحماية الواجبة. وللأسف،17 ديسمبر كان الأمل الأخير في تصحيح المسار وتقديم البرهان على صدق النوايا ووُضوح الرؤية، لكن الأمل قد خاب ووجب الآن فهم المعنى الحقيقي لما جرى وسوف يجري في المستقبل، وإستخلاص العبر

آن الأوان أن يتحمل الجميع مسؤوليته في عدم السماح بالعبث بمصالح شعب، أقولها للمرة الألف، أعزل! شعب وصل إلى أقصى درجات القدرة على تحمل مزيد من الإنتهاكات لحقوقه الكونية، إقتصادية كانت أم إجتماعية، ولن أتكلم عن السياسية أو الثقافية لأنها أصبحت رفاهية لا تمتلك الأغلبية قدرة المطالبة بالدفاع عنها في ظل غياب الأساسيات. آن الأوان لإستخلاص العبر والكف عن إلباس السلط الثلاث مجتمعة في رأسها والسلطة الرابعة، لباس الطهارة والنقاء، والإعلان بصوت عالٍ: « لا للتسامح مع التطبيع والمُطبعين مع الأصولية الدينية » لأن آخر مراحلها، مثلما يقول الفيلسوف د. مراد وهبه: « آخر مراحلها هو الإرهاب »! إرهاب إكتوى به شعبنا مرات عديدة. أملي أن يدعو هذا المقال الإعلاميين الوطنيين للتفكير مَليًّا في خطورة ما يحدث وأن ينخرطوا في بلورة ميثاق شرف يلتزمون فيه بمنع التطبيع مع كل مَن أجرم ويواصل الإجرام في حق شعبنا الذي سوف يتسلح بالوعى كي لا يبقى أعزل

بقلم خديجة توفيق معلَّى