أبطال النهضة

مشهدان أثارا انتباه الرأي العام في الأيام الأخيرة وتداولتهما مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، وهما: مقطع فيديو يُظهر نور الدين البحيري رافعا قارورة زيت ليقول بأن الزيت مفقود في الأسواق، وإن وُجد فهو باهض الثمن. ومقطع يُظهر راشد الغنوشي واقفا في سيارة فخمة رافعا علامة الانتصار ومُحاطا بمجموعة من الحراس الشخصيّين

المقطعان يتضمّنان رسالتين تبدوان مُختلفتين لكنهما مُتكاملتان. والمقصود بهما أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد هي أزمة جديدة لم تكن بنفس الحدّة أيام حكم الإخوان، وأن حركة النهضة مظلومة وانتصرت على الكيد السياسي الذي دُبّر ضدها. وهو ما يجعل البدر يطلع علينا من جديد

لِنُقدّم في البداية ردّا سريعا على المشهديْن

صحيح أن بلادنا تعيش اليوم أزمة اقتصادية خانقة، وأن معالجتها في السنة الأخيرة تمّت بشكل غير مُقنع قد يكون سببا في تعقيدها وفي تواصلها، لكن الذي ينساه قادة النهضة أن جذور هذه الأزمة تعود بالأساس إلى التعاطي الكارثي للسلطة خلال العشرية التي حكمت خلالها حركة النهضة البلاد مع مختلف المجالات وخاصّة منها المجال الاقتصادي. فالقول إذن بأننا نعيش أزمة بسبب خروج الإخوان من السلطة هو عين المغالطة والافتراء. وكان من الأجدر بالحركة أن تعترف بما اقترفته من ممارسات خلال حكمها، ومن اعتمادها على الموالاة السياسية بدل الكفاءات في تسيير شؤون البلاد. وإن ننسى فلا ننسى محاولة حزب النهضة بكل ما أوتي من جهد ودهاء لتمرير اتفاقية في مجلس النواب، في منتصف ذات ليلة، لبيع البلاد إلى مؤسسة قطرية

أما المشهد الثاني فهو مُثير لعديد التساؤلات: فمن أين أتى الغنوشي بتلك السيارة الفخمة وبذلك العدد من الحرّاس الشخصيّين؟ ثمّ هل أن الغنوشي أصبح بريئا براءة الرّسل من عمليّة تسفير الشباب إلى « الجهاد » في سوريا وفي ليبيا، ومعلوم أن تونس أصبحت في فترة حكمه أكبر مُصدّر للإرهابيّين في العالم؟ وهل أن كلّ ما يُمكن نسبه إلى الغنوشي ولإطارات حركة النهضة هو ضلوعهم (أو عدم ضلوعهم) في تسفير الشباب للقيام بعمليات إرهابية؟ فأين مسؤوليتهم في الاغتيالات السياسية؟ وفي الجهاز الأمني السري الموازي؟ وفي حرق سفارة أمريكا بتونس؟ وفي تهريب أبو عياض إلى ليبيا…؟ وأين مسؤوليتهم في إفراغ الإدارة التونسية من كفاءاتها وتعويضها بالموالين للإخوان الفاقدين للكفاءة، بتوظيف أكثر من مائة ألف شخص في الإدارة العمومية من فاقدي التجربة ومن أصحاب السوابق العدلية المرتبطة بعمليات إرهابية؟ الخ

المهم في كل هذا هو أن التونسيّين، باستثناء العدد القليل الذي ما زال محافظا على انتمائه وموالاته لحركة النهضة، انتظروا طيلة خمسة عشر شهرا محاسبة المسؤولين على دمار البلاد خلال العشرية السوداء. واعتقدوا أن تلك المحاسبة بدأت فعلا، رغم التأخّر الكبير. لكن الذي حدث هو أن الملف الوحيد الذي تمّت إثارته إلى حد الآن هو ملف التسفير بفضل شكاية تقدّمت بها النائبة السابقة السيدة فاطمة المسدّي، ولم نسمع بأي متابعة للشكايات العديدة التي تقدّمت بها للقضاء السيدة عبير موسي أو هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي. كما أن هذا الملف بدا ضعيفا جدا بالنظر إلى ما أسفر عنه من نتائج عند سماع من يُفترض أن يكونوا مسؤولين عنه. وكيف يُمكن ملء هذه الملفات وعلاقتنا الدبلوماسية مع سوريا مقطوعة، والسلطة التونسية تعلم جيّدا أن عديد الإرهابيين التونسيين سجناء في سوريا، وأن ملف التسفير لا يُمكن أن يكون له معنى بدون شهادات هؤلاء الإرهابيين، أي بدون التنسيق بين الداخلية التونسية والداخلية السورية، وبين القضاء التونسي والقضاء السوري

قد تكون الملفات الأخرى أفرغ من ملف التسفير. وقد تكون تلك الملفات غير موجودة أصلا. وهو ما يبعثنا إلى الاعتقاد بأن المحاسبة المطلوبة والمُنتظرة لن تأتي. وفي هذه الحال، لنا أن نطرح احتماليْن

إما أن هناك ضغوطات أجنبية على السلطة القائمة الآن بعدم المسّ بحركة النهضة وبعدم محاسبتها. وهي ضغوطات يُمكن أن تكون مُتأتّية من القوى الأجنبية التي ساعدتها على الوصول إلى السلطة ودعّمتها طيلة فترة حكمها، وهي بالتالي ترى أن من واجبها الآن الدفاع عنها وضمان سلامتها، وقد تكون تعمل على عودتها لسدة الحكم حين ترى أن الوقت حان لذلك. وهو ما يُمكن أن يُفسّر حركة الانتصار الذي قام بها الغنوشي

وإما أن تكون السلطة الحالية ترى أن خصومتها مع حركة الإخوان ومع الإسلام السياسي هي مجرّد تموقع سياسي وليست خصومة على المبادئ ولا على الأفعال. ويُؤيّد هذا الاحتمال مواصلة دفاع السلطة القائمة حاليّا على وكر القرضاوي، دون أن ننسى الفصل الخامس من دستور الرئيس قيس سعيد

في المحصّلة، نلاحظ أن الإجراء المُتّخذ بشأن كبار مسؤولي حركة النهضة إلى حدّ الآن، وفي انتظار ما سيطرأ من أحداث لاحقة، جعلت منهم أبطالا، خاصّة عندما يُؤكّدون في تصريحاتهم وفي تصريحات محامييهم، أن ما يُلاقونه ليس سوى مساعٍ كيديّة وأنهم أبرياء من كل التهم المُوجّهة إليهم

منير الشرفي