وَهْمُ الاستقرار

الحوار الجاد والبنّاء والمسؤول والذي يُتوّج بأفق الحل وبخارطة طريق النجاة يستوجب مقدمات وشروطا ضرورية يبدو أن «الفرقاء» غير مستعدين لتوفيرها وتقديمها

*****

تنطبق مقولة «أسمع كلامك أصدّقك.. أشوف عمايلك استعجب» على كل الفاعلين السياسيين في بلادنا وخصوصا أولئك المضطلعين بأعباء الحكم والذين بيدهم اليوم «الحل والعقد» كما يقال، فإما يجنحون إلى العقل وتغليب المصلحة الوطنية على الحسابات الخاصة أو يمضون في الاستبسال في تنفيذ أجنداتهم الشخصية التي ستُفضي في النهاية إلى حشرهم في الزاوية وتحنيطهم في الماضي لأن المستقبل يتأسّس على حاضر متحرّك وإيجابي والتاريخ لا يصنعه إلاّ من يدرك دروسه ويستوعبها

في غضون ذلك، يتواصل النزيف وتتفاقم الأزمة وتشتعل كل الأضواء الحمر والخضر والبرتقالية في نفس الوقت في مشهد يعكس عمق الاضطراب وتبعثر الأوراق، فتتهاطل التحذيرات الخارجية من الدوائر المالية الأجنبية وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليين وكذلك الدول النافذة وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعات الإقليمية على غرار الاتحاد الأوروبي، الجميع يعبّر عن «المساندة» المطلقة للتجربة الديمقراطية التونسية ويتعهّد بدعمها ويحذّر في نفس الوقت من بقاء أوضاعها الداخلية على ما هي عليه

وقد كشف عديد الخبراء عن عمق تدهور الوضع الاقتصادي وذهبت الجرأة بالبعض إلى الحديث عن «إفلاس» الدولة التونسية فيما تحفّظ آخرون واعتبروا أننا فقط على شفا حفرة الإفلاس 

الغريب أن السياسيين وخصوصا في منظومة الحكم كما أسلفنا، يدركون هذه الحقيقة، بل إنهم يطلقون العنان للكلام الجميل عن وقف النزيف والإصلاح والإنقاذ و«رفع التحديات» والتوافق والحوار بطبيعة الحال وهم في الأصل يذكّروننا أيضا بمقولة «كل يغنّي على ليلاه» لأن الحوار الجاد والبنّاء والمسؤول والذي يُتوّج بأفق الحل وبخارطة طريق النجاة يستوجب مقدمات وشروطا ضرورية يبدو أن «الفرقاء» غير مستعدين لتوفيرها وتقديمها وبالتالي فإن الحوار في تقديرنا يظل غاية صعبة المنال في ظل هذه المعطيات الراهنة وهذه الإرادات الباهتة

وليس أدل على ما نقول من صراع «الفرقاء» لا فقط حول عنوان الحوار ومضمونه وربما مخرجاته إن كُتب لها أن تُصاغ ذات يوم، بل حول أطراف هذا الحوار ومَن «الراعي» ومن هو «جدير» أو «مسموح» له بالمشاركة فيه دون قيد أو شرط

فالبعض مرة أخرى يراهن على رئاسة الجمهورية ويعطي صكّا ابيض لساكن قرطاج المتردّد حتى الساعة في التحرك العملي بعد أن جاد علينا بتعبير مقتضب عن الموافقة المبدئية على حوار يحضره الشباب وكأنه ما يزال في كنف الحملة الانتخابية و«الحملة التفسيرية» لبرنامجه الانتخابي الغامض بعد، والبعض الآخر يريد قطع أوصال الحوار إن جاز القول إما باستبعاد هذا الفريق أو ذاك أو بالفصل بين البعد السياسي والبعدين الاقتصادي والاجتماعي هربا من تغيير المعادلات وربما المسّ بـ«الشرعيات» والانتقال من جديد من الشرعية الانتخابية المنبثقة عن استحقاق 2019 بشقيه الرئاسي والتشريعي الى شرعية «توافقية» تعيدنا الى العام 2013 في الوقت الذي ندرك فيه ان التاريخ لا يعيد نفسه

إننا لا نغالي حين نقول أن أركان الحكم اختاروا الانتصاب للحساب الخاص كما يقول علماء الاقتصاد والتصرف، فقد انبرى كل طرف في العمل على حدة حتى دون الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تداخل الأدوار وتكاملها، أو القيام بأعمال موازية لا تسيء فقط لأشخاصهم وإنما للأطراف التي يتعاملون معها وهي فوق ذلك تضر بالدولة وهيبتها أيضا فأي صورة ترتسم لدينا اليوم ورأسا السلطة التنفيذية في قطيعة لا يتواصلان ولم يلتقيا منذ زهاء الشهرين أو أكثر باستثناء تلك المصافحة البروتوكولية في المطار بمناسبة زيارة الشقيقة ليبيا وهي زيارة عرفت بدورها تسابقا في السبق انتهى لفائدة قرطاج على حساب القصبة دون أن ننسى «طرافة» حكاية الصور التذكارية المرافقة لها في الصباح وبعد الظهر 

نفس الملاحظة نسوقها حول علاقة رئاسة الجمهورية برئاسة مجلس نواب الشعب، إذ باستثناء التهاتف للاطمئنان على الصحة (هكذا) لا شيء يذكر بشأن العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، رئيس الحزب الأول في المشهد والداعم له في الدور الثاني من السباق الى قرطاج

ليس ذلك فحسب يُطرح السؤال حول عمل البرلمان ونوايا القوى النافذة أو الأغلبية الماسكة باللعبة فيه بعد أن اهترأت الصورة وتدنّى الخطاب واستشرى العنف ومع ذلك تغلّبت المصلحة الخاصة والجهود مبذولة هذه الأيام لاستكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية لغاية في نفس يعقوب، فالظاهر تفعيل للدستور والمخفي إشهار لسيف سحب الثقة من رئيس الجمهورية ردّا على مبادرات سحب الثقة من رئيس مجلس النواب

إن صور وأخبار لقاءات ما سمي بالرئاسات الثلاث مع الوفود المهنية والقطاعية والجهوية وحتى مع ضيوف تونس من الخارج تظهر وكأن أركان الحكم في جزر معزولة أو كواكب منفرطة في الفضاء السحيق وهي في رأينا رسالة سلبية للداخل والخارج ويأتي كل هذا في ظرف جد دقيق تزداد فيه مخاطر وباء كورونا والحديث عن موجة ثالثة مفزعة مع تفاقم تدهور القدرة المعيشية وارتفاع الاسعار

ومع ذلك، يواصل كل «رئيس» العمل وكأنه ليس ثمة شيء وكأن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مضمون بل ومتوفر دون عناء وهذا في اعتقادنا خطأ جسيم نتيجة فهم مغلوط للاستقرار الذي يختزله رئيس الجمهورية في كونه «الرئيس الوحيد» للدولة والأكثر «طهورية» وشرعية انتخابية، ويراه رئيس مجلس نواب الشعب في الحفاظ على موقعه على رأس «السلطة الأصلية» والجمع مع رئاسة التنظيم فيما يختزله رئيس الحكومة في «دعم حزام سياسي محترم» وله قناعة في هذا المجال بأن وضع تونس يستوجب توفير استقرار لنجاح أي مخطط للإنقاذ وهي الفكرة التي عبر عنها في أكثر من مناسبة هذا الاسبوع وخاصة في اللقاء مع «حزامه» السياسي الاثنين الماضي

هي «الطيحة» على حد قول راشد الغنوشي أثناء تلقيه الجرعة الاولى من التلقيح واستباقه بقية الرؤساء لكن «التنقيزة» ليست بالأمر الهيّن خصوصا إذا كانت قفزة على هذا الواقع الذي هو ليس على ما يرام

بقلم: مراد علالة