ومن التديّن ما يقتل الدين

من أخطر الآفات التي ابتُلينا بها في هذا الزمن الرديء الذي تعيشه بلادنا منذ عشر سنوات، تلك « الحريّة » التي تُبيح التكفير وما ينجرّ عنه من عنف وإرهاب. ولقد دأب بعضهم على الرمي بالكفر كل من خالفوهم في الرأي بخصوص بعض تعاليم الدين أو في قراءات للإسلام تختلف عن قراءاتهم. وفي التكفير، كما يعلم الجميع، دعوة إلى استباحة الأرواح، علما بأن القراءات المُتجددة كثيرا ما تتضمّن اجتهادات صائبة تُنقذ الإسلام من البوتقة العتيقة والمُتخلّفة التي وضعه فيها المُتزمّتون

هؤلاء يُدافعون عن أزليّة قراءة أجداد الأجداد للدين، بدل الدفاع عن مبدأ أزليّة الإسلام. وأزليّة الإسلام، بمعنى ملاءمته مع مختلف الأمكنة والأزمنة، والتي تتطلّب إعادة قراءة القرآن وإعادة تفسير تعاليم الدين من حين لآخر ومن فضاء لآخر عبر العصور والأمصار، هي في آخر التحليل خدمة جليلة للدين، وليست اعتداءً عليه كما يدّعي المتشددون التكفيريّون

هذا الوضع أشبه ما يكون بذلك المُتشبّث بمنزل جدّه الذي ورثه عن جدّه، ويرفض ترميم هذا البيت العتيق وتزويده بالماء والكهرباء والغاز وبيت استحمام والانترنت وكل اللوازم الحديثة للحياة، بتعلّة ما يتّسم به البناء من قدسية للأجداد. فإذا بالمنزل يُصبح غير صالح للسكنى في عصرنا هذا. وإذا دعا أحدهم إلى ترميمه حتى يكون ساكنه مرتاحا فيه، أخرج بعضهم بندقية الصيد أو سيف الجَدّ ليُرديه قتيلا بسبب « تطاول » المُصلح على المُقدّس البالي

فإذا اردت إدخال دانماركي في دين الإسلام مثلا، فسيكون مسعاك فاشلا دون شك إن أردت إقناعه بشريعة الأجداد المُحنّطة. من ذلك مثلا أن الصوم يكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهو الذي يعيش في بلاد تدوم فيه تلك الفترة 23 ساعة في اليوم. كما أنك ستفشل في إقناعه بأنه يحقّ له الزواج بأربع نساء وما ملكت يمينه، وبأنه يجب عليه أن يرث ضعف ما ترث أخته، ويجب قطع يد من سرق رغيفا، وأن المرأة مآلها جهنم إن ظهرت شعرة من رأسها، وأن القبر ملآن بالأفاعي والعقارب، وأن من يقتل شخصا يُشتبه في ضعف إيمانه يُجازيه الله ب72 حورية منذ الحظة الأولى التي تلي ارتكابه للجريمة

أما إذا قدّمت الإسلام لنفس الدانماركي على أن التأويلات القديمة تمّ تطوير جزء منها وأن الجزء الآخر قيد التطوير بفضل اجتهادات مُستنيرة جديدة، يُصبح مسعاك مقبولا. فكما أصبح بإمكانه مثلا أن يصوم ساعات معدودة خلال أيام شهر رمضان دون التقيّد بالنصّ المُحدّد لفترة الصيام بمقياس الفجر وغروب الشمس، حسب اجتهاد محمود، فإن نفس التوجّه يُمكن أن يعتبر أن قطع اليد كان جزاء السارق في زمن لم يكن فيه سجون، وأن غطاء شعر المرأة جاء نتيجة لقراءة ساذجة لآية فُصلت عن سياقها التاريخي، وأن القسمة غير العادلة للإرث كانت تُطبّق عندما كان الرجل قوّاما على المرأة، الخ… وهكذا تكون قد قدّمت له دينا مُتطوّرا ومُتلائما مع العصر يمكن أن يستهويه، بل ويُمكن أن يعتنقه ويدعو إليه. غير أن المُتزمّت قادر على أن يُشهر سيفه أمامكما معا، أمام الدانماركي وأمام من قدّم له الإسلام على أنه دين يتطوّر ويُمكن أن يتلاءم مع التاريخ ومع الجغرافيا، باعتبار أن كليكما : كافر

في الواقع، فإن الإضرار بالدين يأتي من التشدّد الذي يُمارسه المسلمون المُتزمّتون مرارا عديدة في اليوم الواحد، مُعتقدين أن ما يقومون به إنما هو خدمة لله وللإسلام، فتراهم، مثلا، يحشرون اسم الله في مقام لا علاقة له بالخشوع وبالتعظيم عملا بالآية « ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب »، والحال أنهم، فيذكرونه في كل جملة ينطقون بها أثناء حديثهم عن مواضيع لا علاقة لها بالدين. وأذكر على سبيل المثال ذلك اللاعب الذي سأله الصحافي عن الخطة التي سينتهجها فريقه في مقابلة كرة القدم، فيُجيب: « والله، إن شاء الله، نحن بحول الله جاهزون، وإذا حب ربي باش نلعبو، ربي معانا وربي يستر وانشاء الله ربي ينصرنا ». وهي جملة تتحدث عن الرياضة ذُكر فيها اسم الله ثماني مرات، دون أن يكون لها أي معنى. فهل في هذا الكلام ما يكفي من الخشوع والتعظيم عند ذكر اسم الله؟… كما أذكر أيضا ذلك اللاعب التونسي الآخر الذي سنحت له فرصة تسجيل ضربة جزاء في مقابلة رسمية في بطولة كأس العالم الأخيرة بموسكو، والذي، عوض أن يُركّز على مرمى الفريق المنافس وعلى حارس المرمى، أخذ حيّزا كبيرا من الوقت وهو يقرأ القرآن على الكرة التي بين يديه، تحت أنظار مئات الملايين من المُتابعين، قبل أن يقذفها بشكل عشوائي خارج المرمى، وكأنه كان مُتأكّدا من التسجيل ببركة القرآن، ولسان حاله يقول: إذا أخفقت في التسجيل، فالذنب ليس ذنبي ولكنها مشيئة الله

الطامّة الكبرى هي أن المُتشددين التكفيريين يرون أنهم يخدمون الدين ويُدافعون عنه، بجهل وسذاجة، في حال أن الحداثيين هم في الواقع من يخدمونه عندما يُحيطونه بما يستحقّه من اجتهاد ومن خشوع، بعيدا عن مجالات الحياة الدنيا، بما فيها السياسة والعلوم والاقتصاد والثقافة والرياضة

بقلم منيرالشرفي