نجاح الإضراب العام : «خميس» جديد لا مناص من استخلاص دروسه

نفّذ الاتحاد العام التونسي للشغل أمس «الخميس» 16 جوان 2022 إضرابا عاما عن العمل في 159 مؤسسة ومنشأة عمومية في كامل تراب الوطن للمطالبة بتطبيق جميع النقاط المضمّنة في محاضر الاتفاقيات السابقة العالقة والشروع الفوري في إصلاح المؤسسات والمنشآت العمومية وإلغاء المساهمة التضامنية لفائدة الصناديق الاجتماعية بنسبة 1 بالمائة وإنهاء التفاوض حول القانون العام لأعوان المنشآت والمؤسسات العمومية وسحب المنشور عدد 20 الذي يمنع الشروع في التفاوض مع النقابات قبل الحصول على ترخيص من رئاسة الحكومة

كما نفذت المنظمة الشغيلة إضرابا مزدوجا، جهويا ووطنيا، في القطاعين العمومي والخاص في ولاية صفاقس المنكوبة التي تراكمت فيها النفايات لمدة تسعة أشهر كاملة وتعطلت فيها المشاريع التنموية

وقد أعلن الأمين العام نور الدين الطبوبي في كلمته خلال الوقفة الاحتجاجية أمام مقر الاتحاد بالعاصمة نجاح الإضراب بنسبة 96.22 بالمائة رغم العراقيل على حد تعبيره

وكما هو معلوم فإن نجاح إضراب الأمس ليس سابقة في تاريخ المنظمة وهو علاوة على تكرّره عديد المرات سواء عند النشأة قبل الاستقلال أو بعد قيام الدولة الوطنية ثم بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، يعود ايضا إلى العمق وإلى تجذّر الاتحاد في القطاع العام، وهي واحدة من نقاط قوته وهو «الملعب» الذي لا يهزمه فيه طرف في السلطة أو خارجها مباشرة أو بواسطة مداخل ويافطات ضعيفة كالتعددية النقابية على سبيل المثال

وقد برهن الاتحاد أمس أنه رغم وضعه التنظيمي الداخلي وتداعيات المؤتمر الأخير المثير للجدل، ورغم المناخ العام بالبلاد والموقف السلبي للسلطة كما سنبيّن لاحقا، ورغم حملات الشيطنة والترذيل والتخويف والتشويه وترويج مقولات أقل ما يقال فيها أنها ليست بريئة وليست متينة كتسويق خدمة أجندا تنظيم النهضة و«فزّاعة» الخسائر المادية وانعكاسات الإضراب على مكانة البلاد في الأسواق العالمية وإلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني والحال أن الإضرابات، ووفق التجارب المقارنة، حق مورس قبل أيام في أعرق الديمقراطيات وأقواها اقتصاديا ولم يخرج علينا من «كفّر» النقابات وجرّم النقابيين، ظهر إذن أن المركزية النقابية في تونس ما تزال قادرة على التعبئة والاضطلاع بالدورين الوطني والاجتماعي

لقد نجح الإضراب والاحتجاج المدني السلمي في المحصّلة في كامل الجهات تقريبا وتعهّد الاتحاد بمواصلة النضال والتحرّك في الإطار الطبيعي التاريخي الذي تعوّد على الحركة فيه، وفي المقابل حرصت الحكومة على إبراز انكبابها على العمل العادي بعقد مجلس وزاري في نفس توقيت التجمع النقابي نظر في عدد من مشاريع المراسيم والأوامر الرئاسية وسط انطباع عام بعدم المبالاة بما حل بتونس أمس وحتى مجرد الحديث فيه حسب ما رشح من أخبار في الصفحة الرسمية للحكومة

ومهما يكن الأمر، فلا مناص اليوم من استخلاص دروس إضراب الخميس 16 جوان 2022 والاتعاظ كي لا نعيد استحضار «خميس» آخر، فلا الذاكرة تريحها العودة إلى الخميس 26 جانفي 1978 أو حتى الخميس 17 جانفي 2019 أو غيره، فبالبلاد والعباد بحاجة إلى تعديل البوصلة

إننا نأمل أن يستفيد الاتحاد أولا من الامتحان من خلال الاقتناع بأهمية دمقرطة الحياة الداخلية للمنظمة ضمانا لوحدتها وصلابتها والبناء على هذا الزخم وعلى هذه الثقة في خيمة التونسيين لا في قيادتها صراحة مع احترام وحفظ المقامات لأن القادم أعقد ويفرض اليقظة والجاهزية مع التنويه بأيادي القوى المدنية والسياسية على حد سواء الممدودة للدعم والمساندة والمشاركة في المعارك كما برز أمس في مواقف الأحزاب الوطنية التقدمية والجمعيات والنقابات المهنية المحلية والأجنبية

ثانيا، في جهة السلطة، رئاسةَ للجمهورية وحكومة ساهرة على تنفيذ السياسة العامة للدولة، ثمة جزئيات وثمة أسس حكم لا بد من احترامها وأولها حفظ هيبة الدولة من خلال أخذ مسافة عن كل من هو بصدد توظيف الولاء والزعم بالانتصار لمشروع الرئيس والحال أنه بصدد الإساءة إليه عبر الإساءة لمنظمة يحترمها هو شخصيا وتوجّه بالتهنئة لها وكان من زوارها قبل ولوجه إلى قصر قرطاج

إن حقيقة إضراب الأمس وما قد تتم برمجته من إضرابات ونضالات عمالية في الأيام القادمة لا يمكن أن ننظر إليه خارج البعدين السياسي والاجتماعي، أو بالأحرى خارج إطار الدور الوطني للمنظمة الشغيلة التي لا يمكن أسرها في العمل النقابي «الحرفي» كما قال الأمين العام، وحتى إن حصل ذلك فلا حلّ سوى وفاء من هو في الحكم، على الأقل بتعهدات منظومات الحكم السابقة بمنطق استمرار الدولة

وهذه المقاربة في إدارة الشأن الوطني وتقسيم الأدوار لا تقبلها حتى الدوائر المالية التي يراهن عليها الحكم لإخراجه من عنق الزجاجة، فالداخل والخارج يدرك جيدا أن الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي يستوجب ضمانات وقوى اجتماعية قوية وذات مصداقية

ولا يمكن في تقديرنا فصل الاجتماعي المطلبي عن السياسي فالسياسة الاجتماعية والاقتصادية للدولة هي في نهاية المطاف جزء لا يتجزأ من السياسة العامة للدولة وهو ما يحرص كتبة الدستور الجديد للجمهورية الجديدة على تضمينه فيه، والتاريخ التونسي بشكل خاص وبخلاف الدول الشبيهة انبنى على ركيزتي، السلطة / الاتحاد وكلما اختل التوازن وقضمت السلطة من «حق» المنظمة كلما دخلت البلاد أو أمعنت في الدخول في الطريق المسدود

إن الاتحاد لا يجد حرجا في القول بأن في تحركاته وإضراباته ما هو ذو طابع سياسي، وهي ليست تهمة، فقد فعلها لحظتي اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، وهو اليوم غير راض عن «الحوار الوطني» الذي ذهب فيه رئيس الجمهورية والطريقة الأحادية في السير بقطار البلاد الذي حاد عن السكة خلال العشرية الأخيرة وحتى قبلها حتى لا يفكر البعض في الرجوع أيضا إلى ما قبل 14 جانفي 2011 أو ما قبل 25 جويلية 2021 على حد سواء..
قد يكون سؤال المرحلة، ما العمل ؟ والإجابة دون شك خطوتان إلى الوراء بالنسبة إلى الجميع قبل فوات الأوان بعد الخطوة التصعيدية الأولى التي أنجزها الاتحاد العام التونسي للشغل بنجاح وخطوة الهروب إلى الأمام من قبل السلطة

بقلم: مراد علالة