مِن الإفراط في إستعمال السلطة إلى إرهاب دولة

الهجوم الهمجي لقوات الأمن على مقهى في صفاقس مسألة في أعلى الخطورة والتي لا يمكن السكوت عليها تحت أي ظرف أو أي مُسمى، لأن الساكت عن الحق، شيطان أخرس

إرهاب البوليس الذي إخترق، يوم الثلثاء 27 أفريل، حُرمة مقهى بمدينة صفاقس، يوجد فيه مواطنون مَارَسوا حَقَّهم الدستوري الذي يضمن حرية المعتقد، مرفوض شكلا ومضمونا. هؤلاء الأشخاص الذين لم يتعدُّوا على حق أو حرمة أي مواطن، مُورِس ضدَّهم إرهاب دولة، والذي يجب أن يُحاسب مرتكبوه فورا، لأن إختراق الدستور والعبث بالحقوق والحريات جريمة يعاقب عليها القانون

ويوجد سيناريوان لا ثالث لهما: فإما أن يكون أعوان الأمن هؤلاء قد تحرَّكوا بمحض إرادتهم وقاموا بما فعلوه بدون أي أمر مسبق أو تعليمات مُعيَّنة، أو مثلما وصف ذلك الإعلامي هيثم المكي: « بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »، وهذا شيء خطير. لكن السيناريو الأخطر، هو أن تكون وزارتهم قد أعطتهم مثل هذه التعليمات والأوامر، وفي هذه الحالة يجب على القضاء فتح بحث للتحرِّي عن الجهة التي أعطت هذه التعليمات والأوامر، وذلك في خرق واضح وفاضح لدستور البلاد

فعلا، ما قيمة أن يكون لنا فصل سادس في الدستور ينص صراحة على حرية المعتقد، ولكن حين يختار بعض المواطنين ممارسته، يهجم عليهم البوليس هجمته الشرسة، بل تصل به الدناءة إلى إخراجهم من المقهى وإهانتهم أمام المارّة، والتنكيل بعد ذلك بصاحب المقهى إلى درجة دخوله إلى المستشفى. وحرية المعتقد مستقاة من تعاليم الدين نفسه: « لكم دينكم، ولي ديني »، و »لا إكراه في الدين »! ولأنه ببساطة أي دين مَبنِي على الإكراه، لا يمكن أن يُعتبر دينا! ولو قبلنا بفكرة إمكانية فرض الدولة لأي دين على الأفراد، فيجب أن نقبل أن يُفرض على الجالية التونسية بالخارج الدين السائد في الدولة التي يقيمون بها، بكل ما يقتضيه ذلك الفرض من قمع لمن لا يمتثل لذلك الأمر

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل وُضع هذا الفصل في الدستور للضحك على ذقون السُذَّج الذين إنتخبوا أعضاء المجلس التأسيسي؟ أم هل زُجَّ بهذا الفصل السادس عُنوة ومرضاة للمجتمع الدولي والتَبَجُح أمامه أننا دولة مدنية تحترم حقوق مواطنيها بما في ذلك حرية المعتقد؟
يمكن أن نَطرح ألف سؤال وسؤال، ويمكن أن نتصور ألف سيناريو لما حصل، لكن المهم هو الوعي بأنه إن قَبِلنا بما حصل في صفاقس، دون المطالبة بإيقاف مَن يخرق الدستور، وأن نسمح له أن يرتع في البلاد بدون حسيب أو رقيب، فكل السيناريوهات المستقبلية واردة. وسوف أتخيل بعضها، وعلى القارئ تصور سيناريوهات أخرى. السكوت عما جرى سوف يفتح الباب لكل الخروقات في المستقبل لكل فصول الدستور وكل القوانين، ويعبث بكل الحقوق والحريات. فغدا، سوف يُصبح مثلا مِن حق البوليس إقتحام أي مكان، وحتى المنازل، وإيقاف مَن فيه تحت تِعلة ترك الصلاة، أو عدم إخراج الزكاة، أو حتى عدم القيام بفريضة الحج

الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأيضا السكوت عن ظلم الدولة لمواطنيها جريمة لا تُغتفر! وعدم محاسبة ومحاكمة رجال الأمن الذين قاموا بهذا الهجوم الهمجي وإفراط في إستعمال سلطة أعطيت لهم بموجب دستور لم يتورعوا في إختراقه بكل عبثية وإستهزاء بدولة القانون والمؤسسات، وضرب فاضح لمَدَنِيَّة الدولة

ولست مِن مَن يحاول إخفاء ما حصل تحت تِعلة أن المواطنين الذين كانوا في المقهى لديهم أعذار، مثل أن يكون أحدهم مريض بداء السكري، وإحتاج لشرب كأس ماء مع شيء من السكر كي لا يُغمِي عليه، أو أن إمرأة حامل إحتاجت حالتها الصحية أن تستريح في مقهى وأن تحتسي شيءً من الماء أو القهوى. ولا أريد أن أتخيل أن بعض السياح كانوا بالمقهى وأن هول ما رأوه من قمع البوليس، سوف يجعلهم يُحذرون كل مواطني بلدانهم بعدم الذهاب إلى تونس أبدا. ولا أن مواقع التواصل الاجتماعي سوف تنقل في جميع العالم هول هذه الحادثة، وسوف يعزف أيا كان إلى القدوم إلى بلد تُقمع فيها الحريات بهذه السهولة ويصبح دستورها خرقة تُمسح بها الأحذية

لا أحتاج أن أختبأ تحت أية تعلَّة لأنني أفضل أن أتخيل أنني لا زلت أعيش في دولة مدنية، يُقرُّ دستورها صراحة بحرية المعتقد، ولا أحتاج بالتالي لتغليف كلامي هذا بأي غطاء سوى الغطاء الدستوري

إنني أعتبر ما حصل بمثابة إعلان حرب على مدنيَّة الدولة، وهذه الحرب سوف تُؤدي إلى أخطر وأعنف السيناريوهات، وإنني أحمِّل المسؤولية كاملة للسلط الثلاث إن لم تتدخل وبالتالي إن أوقعت شعبنا الأعزل في هذه الحرب
ومَن أنذر، فقد أعذر

خديجة توفيق معلَّى