من دولة « الإسلام دينها » إلى : أمة الشريعة

مصطلح « الأمّة » هو مفهوم سياسي إيديولوجي مُعقّد. ولقد مرّ عبر التاريخ بتعريفات مُتعدّدة تتغيّر حسب الظروف التاريخية والجغرافية والسياسيّة. و »الأمّة » هي مبدئيّا مجموعة مستقرة من الناس يرتبط أفرادها بروابط واضحة مثل اللغة أو التاريخ أو الجنس أو الدين… علما بأن لفظة « الأمة » ومدلولها أسبق من لفظة « الدولة » التي لم تعرف قبل التاريخ المكتوب، بينما الأمم كانت قديمة الظهور. وبالنظر إلى التعريفين، يتّضح أن « الدولة » أصغر من الأمة

والرأي المُتداول في ربوعنا هو أن تونس تنتمي إلى أمّة ما، حسب هوى المُتحدّث وإيديولوجيته. فهي تنتمي إلى الأمّة العربية، عند القوميّين، وإلى الأمة الإسلاميّة حسب الإسلاميّين، ولِمَ لا تنتمي إلى الأمة المتوسطيّة إذا اعتبرنا انتماء تونس إلى الفضاء الجغراسياسي الذي يتضمّن الدول المُطلّة على البحر الأبيض المتوسط… والانتماء إلى أمّة ينفي مبدئيّا الاقتصار على الانتماء إلى دولة

فالقوميّون، والبعثيّون بالخصوص، يُعبّرون عن الدول بلفظ « القطر ». فتراهم يتحدثون عن القطر التونسي والقطر الليبي والقطر السوري الخ… لأن هذه « الأقطار » لا تُمثّل دولا مستقلّة ولأن مآلها الاندماج في دولة عربية واحدة. لكن السعي إلى توحيد الدول العربية وإدماجها في كيان واحد باء بالفشل رغم كل المحاولات طيلة عشرات السنين. ويكفي هنا أن نُذكّر بأن « جامعة الدول العربية » اختار لها زعماء الدول المُؤسسة لها هذا الاسم، سنة 1945، بدلا عن اسم « الجامعة العربية » حتى يتمّ التنصيص على لفظ « الدول » تأكيدا لاستقلالها عن بعض

أما بالنسبة « للأمّة الإسلاميّة » فالموضوع أعمق وأخطر. ويتمّ اللجوء إليها بالاعتماد على الآية « إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ » (الأنبياء – 92). ذلك أن المطلوب هو دولة الخلافة التي تتوحّد ضمنها كافة الدول التي يتديّن جزء هامّ من شعوبها بدين الإسلام، وتضمحلّ ضمنها الدول الأصليّة لتُصبح مجرد ولايات أو إمارات، ويحكمها خليفة على أساس « مقاصد الشريعة ». وهو ما يعني أن الأفراد لم يعودوا مواطنين ليُصبحوا رعايا، كما أن غير المُتديّنين بالإسلام يُصبحون رعايا من درجة ثانية. أما تطبيق الشريعة، التي هي عمل بشري يتضمّن « اجتهادات » أسلاف الأسلاف، فيُفيد العودة إلى ممارسات بدائيّة مثل العبودية وتعدد الزوجات وقطع يد السارق وإعطاء الحق للزوج بأن يضرب زوجته الخ

ما يهمّنا اليوم في تونس هو علاقة الدولة بالدين وبالأمة الإسلامية وبمقاصد الشريعة وما سيكون عليه الدستور الذي سيُعرض على الاستفتاء في هذا الموضوع. ولا بدّ من التذكير هنا بأن حركة النهضة، بمساعدة المُكوّنيْن الآخريْن للترويكا (التكتل والمؤتمر)، سعت جاهدة خلال سنتي 2012 و2013 إلى التنصيص في دستور المجلس التأسيسي على أن الشريعة يجب أن تكون المصدر الأساسي للقوانين. ونذكر جميعا ما نتج عن ذلك من احتجاجات من طرف عشرات النواب التقدّميّين، ومعهم عشرات الآلاف من المواطنين في اعتصام الرحيل في باردو خلال صائفة 2013. وكانت النتيجة أن تمّ اعتماد الفصل الثاني من دستور 2014 الذي ينصّ صراحة على أن تونس « دولة مدنيّة »، مع الاحتفاظ بالفصل الأول الذي ينص على أن : تونس دولة (…) الإسلام دينها

واعتبارا إلى أن الدولة « لا تُصلّي ولا تصوم ولا تدخل الجنة ولا النار »، حسب قراءة الرئيس سعيّد، وهو مُحقّ في ذلك، واعتبارا أيضا لما صرّح به العميد الصادق بلعيد من أن « الفصلين الأول والثاني مُتناقضان، ولا بدّ من تجاوز هذا التناقض »، فلقد ذهب بنا الظنّ إلى أنه سيتمّ التخلّي عن الفصل الأول كخطوة هامّة في سبيل إرساء قواعد الدولة المدنية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، دولة الحريات والمساواة

لكن هذا الاستنتاج كان مُتسرّعا نظرا إلى أننا نجهل تماما مُحتويات مشروع الدستور الذي تمّت صياغته بشكل أبعد ما يكون عن الشفافيّة، خلافا لدستور 2014 الذي كانت المداولات بشأنه تُبثّ مباشرة عن طريق التلفزة. بل أن الذين شاركوا خلال الأسبوعين الأخيرين في صياغة هذا الدستور الجديد يجهلون محتويات الصيغة التي قُدّمت لرئيس الجمهورية

تصريح رئيس الجمهورية فجر يوم الأربعاء الماضي جاء ليُوضّح بعض ملامح الدستور بخصوص علاقة الدين بالدولة. وهي علاقة يبدو أنها ستكون أخطر بكثير من « الإسلام دينها »، لأنها ستعود بنا إلى ما قبل اعتصام الرحيل (أوت 2013). كيف لا، وقد بيّن رئيس الجمهورية في ذلك التصريح بأن « أهم شيء هو تحقيق مقاصد الإسلام ومقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا ما سنعمل عليه في الدستور القادم ». أي أن الدستور القادم سيكون دستور الشريعة ودستور الأمة. وهو اختيار لا أعتقد أنه قد ضُمّن في المشروع المُقدّم للرئيس

إذا كان الأمر كذلك، فهل سيرضى التونسيّون، وفي مقدمتهم الأستاذان الصادق بلعيد وأمين محفوظ وبقية المشاركين في « الحوار الوطني »، بأن تقتصر الدولة التونسية، بدون سلط، على تحقيق مقاصد شريعة ابن تيمية مثلا، وعندها سنقول : يا حسرة على الإسلام دينها

منير الشرفي