ما أبعدنا عن مدنية الدولة

في حديث صحفي، وردّا على سؤال حول سبب بداية حكاياته بنقرة على طبل من النحاس، يقول أب الإذاعة الوطنية وأحد بُناتها المرحوم عبد العزيز العروي بأن تلك الضربة ليس لها لغة ولا دين ولا لون، مُضيفا: « إذا بدأت حكايتي ب »السلام عليكم » يعتبر المستمع اليهودي أنني لا أخاطبه. وإن بدأتها ب »شالوم » يظن المستمع المسلم أنه غير معني بما سأقوله. في حين أن ضربة الطبل تجلب الجميع

حكمة عبد العزيز العروي يُقرّ بها الجميع. لكن هذه الحكمة بالذات لم يكن العروي الوحيد الذي سار على هديها وجعلها نصب عينيه في كل ما ينطق به في الإذاعة الوطنية، وهو الشأن بالنسبة لكل من خاطب التونسيين من خلال مصدح الإذاعة في فترة بناء الدولة الحديثة

شبّ التونسي إذن على ذلك الخطاب الإرشادي والتثقيفي، ولكنه لم يشب عليه

شبّ على الفكر التنويري الذي كانت الإذاعة تبثّه كل يوم في مختلف البرامج، وفي التمثيليات، وحتى في الأغاني، لأن الدولة الحديثة بُنيت على مبدأ المدنية وفصل الدين عن السياسة وعن الثقافة وعن العلوم… كل ذلك دون المساس بالدين الإسلامي الذي كان مُعظم التونسيين يتديّنون به بكل حريّة، ولكن أيضا بكل احترام للآخرين وفي تعايش سلمي مبني على احترام المُتديّنين بأديان أخرى وحتى اللادينيين

في ذلك العهد، كان رئيس الجمهورية يبدأ خطاباته المُوجّهة إلى الشعب بعبارة « أيها المواطنون، أيّتها المواطنات »، وأحيانا بعبارة « أبنائي الأفاضل، بناتي الفضليات ». وهو تقديم للخطاب يضمّ كافة من يحمل الجنسية التونسية دون استثناء، وفيه إحساس بالقرب بين المُخاطب والمُتلقّي. ذلك المُتلقّي الذي قضى يومه في العمل أو في الدراسة حيث لا وجود لأيّ خلط بين الدين والحياة المدنية، وهو الذي يجد أيضا في دور الثقافة ما يطيب له من أنشطة مثل المسرح والموسيقى والشعر… ذلك المُتلقّي الذي يجد أيضا كل الظروف الملائمة للتعاطي بكل حرية مع شعائر دينه، وذلك بتعدّد المساجد المفتوحة ليلا نهارا للصلاة والتعبّد، ولكنه يجد أيضا المقاهي والمطاعم مفتوحة كامل أشهر السنة بما فيها شهر رمضان، ممّا يُعطي الامكانية للمواطن حريّة التديّن من عدمها دون إجباره على الصيام ولا إجباره على عدم الصيام، علما بأنه يُمكن للمُتديّن ألّا يصوم لأسباب خاصّة

في تلك الفترة من بناء الدولة التونسية الحديثة، كان الدين مُقدّسا، لأن التديّن لم يكن مفروضا، رغم أن الدستور التونسي لم يكن ينصّ في نسخته لسنة 1959 لا على حرية الضمير والمعتقد كما هو الحال الآن، ولا على أن تونس دولة مدنية كما جاء صراحة في دستور 2014

هذا الوضع تغيّر شيئا فشيئا في تونس منذ أن أُصيبت ببليّة الإسلام السياسي الذي أربك المجتمع، وأعني الاسلام الإخواني الذي وضع قدمه في بلادنا منذ السبعينات، وتغلغل في الثمانينات بالعمليات العنيفة باستعمال السوائل الحارقة والآلات الحادة ضد من يرون أن إسلامه لا يتوافق تماما مع إسلامهم. وللتاريخ، لا بدّ أن نُذكّر بأن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي سقط في فخّهم عندما أراد « سحب البساط » من تحت أقدام الإخوان، سعيا منه لمحاولة إقناع مريديهم بأنه هو أيضا « إسلامي ». فاتّخذ جملة من الإجراءات أذكر منها بالخصوص إحداث وزارة للشؤون الدينية، وإنشاء المجلس الإسلامي الأعلى، وبثّ الآذان في الإذاعة وفي التلفزة… ولعلّ أخطر ما اتّخذه بن علي من قرارات هو التخلّي عن الحساب العلمي لدخول الأشهر القمرية بالعودة إلى الطرق البدائية المُتمثّلة في رؤية الهلال. وهي إجراءات ديماغوجيّة سياسويّة شعبويّة لا ندري ماذا ننتظر للتخلّي عنها

تلك كانت بداية التخلّي عن مبادئ مدنيّة الدولة. هذا التخلّي يصعب التراجع عنه بعد أن تغلغل الإسلام السياسي في السلطة في العشرية السوداء التي عاشتها تونس، إلّا إذا تمّ القضاء عليه من جذوره

فهل وضعت إجراءات 25 جويلية حدّا للإسلام السياسي؟
لا أعتقد ذلك، وذلك لسببين على الأقل

أولا، إن الإسلاميين لم يُحاسَبوا على ما اقترفوه من أعمال أدّت إلى انهيار الدولة وإفلاسها، بسبب توجّهاتهم السياسية القائمة على وجوب إضعاف أسس الدولة الحديثة وتعويضها بحكم « علماء » الدين، من جهة، والقائمة أيضا على منطق الغنيمة الذي يُخوّل لهم التصرّف الشخصي في أموال الشعب. بل أنهم، بعد أن مرّوا بسلام من مرحلة الشك، عادوا بقوة من خلال تصريحات الغنوشي القائلة بأن « مجلس النواب عائد أحبّ من أحبّ وكره من كره »، وتصريحات مستشاره السياسي رياض الشعيبي التي جاء فيها: أقول لرئيس الجمهورية إن البرلمان سيُلغي في أول جلسة له كل المراسيم التي أصدرها وكل الآثار العملية التي ترتّبت عنها

هذا الخطاب المُتجدّد للإسلاميين جاء نتيجة التباطؤ في اتخاذ الإجراءات الحازمة، لا ضد الإسلام السياسي فحسب، رغم الرسالة الواضحة التي عبّر عنها الشعب التونسي يوم 25 جويلية في هجومه على مقرات حركة النهضة من الشمال إلى الجنوب، بل هو أيضا تباطؤ في وضع البلاد على سكّة جديدة تضع حدّا للانفراد بالحكم الذي عاشت البلاد على وقعه في العشرية الماضية، وفتح الطريق أمام نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على استشارة الكفاءات الوطنية، سواء كانت مُساندة للرئيس أو معارضة له

ثانيا، نلاحظ في المدّة الأخيرة مواصلة تركيز أسس الدولة الدينية في تونس والتعامل مع الشأن العام باسم الدين وليس باسم القانون وباسم مدنية الدولة. ونكتفي هنا بذكر مثاليْن

– ففي برنامج تبثّه الإذاعة الوطنيّة، إذاعة كل التونسيين بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينية، تسأل مواطنة عبر الهاتف إن كان يحقّ لها أن ترث من أخيها المتوفّي، علما بأن له ابن وحيد بالتبنّي. فكان ردّ الصحفي، مُتجاوزا دوره، دون تفكير ودون تردّد بأن التبنّي « حرام »، والحال أنه يتكلّم في مؤسسة عموميّة تحكمها دولة مدنية ينصّ دستورها على علوية القانون، علما بأن القانون التونسي يسمح بالتبنّي

– المثال الأول يبدو بسيطا أمام المثال الثاني والذي يتمثّل في مقدّمة خطاب رئيس الجمهورية، الذي أقسم على احترام الدستور، أمام مجلس الوزراء الذي انعقد يوم الخميس الماضي، حيث بدأ كلامه، تماما كما يبدأ الإمام خطبة الجمعة، بالقول: « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، باسم الله الرحمان الرحيم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين »، ولسان حاله يقول : « إن كلامي لا أقوله باسمي الشخصي وإنما باسم الله، وهو بذلك يكتسي صبغة قدسيّة، كما أنه مُوجّه حصرا للمسلمين من الشعب التونسي، وأما اليهود والمسيحيون واللادينيون من التونسيين، فإنهم غير معنيين به

أين نحن من مدنية الدولة ومن حرية الضمير والمعتقد ومن علوية القانون؟ أين نحن من مبادئ الدستور؟

منير الشرفي