لماذا لا تنجح أحزاب الإسلام السياسي في الحكم ؟ ( 1/ 3)

ليس للأمر علاقة مباشرة بمرجعية هذه الأحزاب الإسلامية، إذ لا تمثل المرجعية الدينية في حد ذاتها عامل فشل ، كما لا تمثل عامل نجاح، طالما أن إدارة الحكم وما يقتضيه من الشؤون السياسية والاقتصادية ومن البرامج والخطط والمؤسسات ومن الإجراءات العملية والقوانين أمور لا تتيحها الأديان بقدر ما تتيحها الدراسات العلمية الدقيقة والاختيارات السياسية الاستراتيجية المبنية على استقراء متطلبات الواقع ومقتضياته وحاجاته الراهنة وعلى استشراف مآلاته المستقبلية ووضع البرامج المناسبة لها. ولذلك تنحصر هذه المرجعية الدينية في أحسن الأحوال في جملة من القيم العامة ومن الأخلاقيات التي يمكن أن تشكل قاعدة قيمية للحكم من وظائفها على سبيل المثال أن تقاوم نزعات الفساد وأن تحصّن الأشخاص ضدّه وأن تشجع على أخلقة العمل السياسي، كما يمكن أن تشكل في أسوأ الأحوال ستارا للتغطية على الفساد أو على أساليب الحكم اللامشروعة وعلى غاياته الحزبية الخفية، وهو ما يؤكد لدينا أن الأمر لا صلة له بالدين في ذاته بل بالطرق التي توظف بها الأحزاب الدينية هذه الأديان وبما تفهمه منها وما تختار تفعيله من مكوناتها في إدارتها للحكم. ويكفي أن نقارن بين أحزاب الديموقراطيات المسيحية والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية لنرى البون الشاسع بين الصنفين ولنتبيّن أن المرجعية الدينية يمكن أن تصنع أحزابا ديموقراطية كما يمكن أن تصنع أحزابا فاشية، والمحدّد في الحالتين هو ما يوظف من هذه المرجعية والطرائق التي يوظف بها، وكل هذا مجاله الحقيقي هو السياسي وليس الديني

فبماذا نفسر هذه الشواهد المتواترة من أكثر من تحربة ومن أكثر من سياق على أن الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية لم تنجح إلى حدّ الآن في إدارة الحكم، بل إن تلك التجارب تشهد بوضوح على الانهيارات الفادحة التي عرفتها بلدان جرّاء حكم أحزاب إسلامية. إن الذين يعرفون شيئا من تاريخ السودان والصومال وأفغانستان والباكستان ومن واقع هذه البلدان قبل أن تسيطر على الحكم فيها أحزاب دينية أو جماعات إسلاموية يعرفون تبعا لذلك مقدار الدمار الذي حل بهذه البلدان في كل الصعد وعلى كل المستويات منذ أن هيمن على شؤونها أولئك. حولت القاعدة وطالبان أفغانستان من دولة ذات مؤسسات إلى بلد تتقاذفه الجماعات والقبائل، ومن بلد يسعى إلى بناء نظام اقتصادي حديث إلى مزرعة كبيرة لكل أنواع الحشيش وتحول الأفغان من شعب متعلم متحضر إلى مجموعات متصارعة تنتشر فيها أعلى نسب الأمية والفقر، وما حصل في السودان زمن حكم الجبهة الإسلامية وفي الصومال منذ أن هيمنت عليها الجماعات الإسلامية وخاصة حركة الشباب لا يكاد يختلف كثيرا عما حصل في المثال الأفغاني. وها نحن في تونس نسير منذ عشر سنوات نحو مصير مشابه . فبعد « ثورة » على الفساد وحكم عصابات السراق والفاسدين تجد تونس نفسها اليوم ضحية فساد أخطر وأكثر شيوعا بشهادة أكثر من سبعين بالمائة من التونسيين يعترفون بأن الفساد اليوم أكبر بكثير من الفساد الذي ثاروا عليه. أما الفقر والبطالة وتدهور الخدمات العمومية وانهيار المؤسسات العمومية وإفلاسها وتراجع كل قطاعات الإنتاج والارتفاع الجنوني في نسق المديونية فإنه بلغ حدا صارت معه البلاد على حافة الإفلاس إن لم نقل إنها أفلست فعلا وإن لم يعلن ذلك رسميا. في الأثناء انتشرت في مجتمعنا ظواهر سلبية كثيرة وخطيرة كنا نعتقد أنه تجاوزها في سبيله نحو بناء مجتمع المواطنة الحديث، من قبيل النزعات الجهوية والعشائرية ومن قبيل التقسيمات العقائدية والعنصرية ، فضلا عن اهتزاز عميق في المرجعيات القيمية وتفشي الممارسات العنيفة والذهنيات المنغلقة والمتطرفة وانتشار علامات الجهل وارتفاع نسب الأمية . كل هذه الظواهر تقوم شاهدا على أن تطلعات الثورة وآمال الثائرين انقلبت أوهاما وإحباطا نراه في عيون التونسيين جليا 

بماذا نفسر مرة أخرى هذا الفشل؟

سياسيا أولا يمثل التعامل مع الديموقراطية على أساس كونها مجرد آلية للوصول إلى الحكم ثم إفراغها من محتواها الاجتماعي والاقتصادي وفصلها عن الفلسفة السياسية وعن القاعدة الأخلاقية اللتين تقوم عليهما استعدادا للانقلاب عليها والانفراد بالحكم أحد هذ الأسباب . فبعد تجربة عشر سنوات من الحكم « الديموقراطي » كان خلال أغلبها حزب حركة النهضة الحزب الأغلبي أو المهيمن على الحكم فقدت أغلبية الشعب أو تكاد ثقتها في جدوى النظام الديموقراطي وفي قدرته على الاستجابة لتطلعاته وعلى تغيير أوضاعه نحو الأفضل ، وصار التشكيك في هذا النظام وتفضيل الحكم الذي يحفظ للدولة هيبتها وللقانون سلطته ولو كان غير ديموقراطي من المواقف المنتشرة شعبيا. وقد ترجمت هذه المواقف عمليا بتراجع متزايد لنسب الإقبال على الانتخابات من دورة إلى أخرى وكأن الشعب يبلغ من وراء ذلك رسالة مفادها إن هذا الشأن شأنكم ولا يعنيني طلما أنه لم يفدني بشيء

سياسيا ثانيا دأبت هذه الأحزاب على عقد تحالفات لا تحتكم إلى أية مبدئية ولا إلى برنامج سياسي واضح ومخطّط له. بل هي تحالفات مصلحية لا غير، وليتها كانت لخدمة المصلحة العامة لكان الوقع أهون ولكنها تحالفات لخدمة مصالح الحزب أو الجماعة، بل وأحيانا لخدمة مصالح الشق المتنفذ في الحزب أوفي الجماعة، حتى ولو أدى هذا إلى التحالف مع « المنظومة القديمة » التي ثار عليها الشعب أو مع « أزلامها » ممن يسهل توجيههم والتحكم فيهم واستخدامهم لتنفيذ أجندات يرى الحزب أن مصلحته تقتضي تنفيذه عبر « وسيط » حتى لا يتحمل مسؤوليتها ولا يحاسب عليها. وقد تقتضي المصلحة التحالف مع أحزاب سبق للجماعة نسبتها إلى الفساد وأعلنت لارفض التعامل معها بكل الأشكال ، ولنا في تحالف حزب حركة النهضة مع حزب قلب تونس مثال نموذجي وشائع في تاريخ الأحزاب والجماعات من النوع نفسه

سياسيا ثالثا ولعله بسبب وعيها بأنها لا تملك الكفاءات الضرورية للحكم ولإدارة دولة ولا البرامج والخطط المدروسة والمجدية ظلت حركة النهضة على امتداد عشر سنوات يدفع بالحكم إلى « غيره »-شكلا- أسوة بأحزاب شبيهة، آثرت أن تدفع بالحكم وبصعوباته في الفترات الانتقالية لمن يتولاه بدلا عنها ولكن تحت مراقبتها وتوجيهها حتى تتفرغ هي للعمل على التمكن من الدولة و »الهيمنة الناعمة » على مفاصلها ولبسط النفوذ على الفاعلين فيها بأساليب أقرب إلى أساليب العصابات، وهي تتصور بذلك أنها تربح على أكثر من واجهة، إذ لا تتحمل من جهة مسؤولية الفشل إن وقع وتجني في الوقت ذاته ثمار التفرغ للتمكين وثمار النجاح في الحكم إن حصل لأنها ستقدم نفسها آنذاك بوصفها الحزب الأغلبي الذي اختاره الشعب ديموقراطيا والذي يتمتع بالشرعية الانتخابية. ولكن هل قرأ هؤلاء حسابا لوضعية الانهيار ولفرضية انقلاب الشعب ضدهم ومن ثمة لسحب الشرعية منهم؟ ما هو بديلهم في هذه الحال؟

دعنا قبل ذلك ننظر في أسباب أخرى لفرضيتنا الأصلية وهي أن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية أو ما يعرف بأحزاب الإسلام السياسي محكوم عليها بالفشل في الحكم، وهذا ما نعود إليه في حلقة قادمة

بقلم زهية جويرو