لماذا أدانت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب تونس؟

أصدرت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب يوم الخميس 22 سبتمبر 2022 في ختام دورتها العادية السادسة والستين التي التأمت على امتداد أربعة أسابيع بمقر المحكمة في العاصمة التنزانية أروشا، 17 حكما ضد عديد الدول الإفريقية ومن ضمنها الجمهورية التونسية تفاعلا مع العريضة التي تقدم بها المحامي لدى التعقيب إبراهيم بلغيث في21 أكتوبر 2021 ضد الإجراءات والمراسيم التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد منذ 25 جويلية 2021

وقضت المحكمة الإفريقية كما صار معلوما ببطلان الإجراءات والتدابير الاستثنائية وأمرت الدولة التونسية بإلغاء الأمر الرئاسي عدد 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021 والمراسيم الرئاسية عدد 69 و80 و109 الصادرة في 26 و29 جويلية و24 أوت 2021 والعودة إلى الديمقراطية الدستورية في أجل أقصاه سنتين من تاريخ تبليغ الحكم

وينص الحكم أيضا على أن تتخذ تونس كافة الإجراءات الضرورية خلال مدى زمني معقول لا يتجاوز في كافة الأحوال سنتين لإرساء المحكمة الدستورية وإزالة كافة العوائق القانونية والواقعية التي تحول دون ذلك. كما تضمن نص الحكم وتحديدا ملخصه المنشور في تسع صفحات باللغتين العربية والفرنسية في الموقع الرسمي للمحكمة على شبكة الانترنيت، دعوة للدولة التونسية لإعداد تقرير في اجل لا يتجاوز 6 أِشهر حول الإجراءات المتخذة لتنفيذه وتقديم تقرير كل ستة أشهر إلى غاية اعتبار المحكمة أنه تم تنفيذ الحكم بالكامل

وبقطع النظر عن هذا الحكم القضائي الدولي الصادر عن محكمة دولية بحكم التعريف القانوني وهي المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب التي هي واحدة من أهم مؤسسات المنظمة الإقليمية «الاتحاد الإفريقي» والتي كان لتونس رسميا ومدنيا شرف كبير في تأسيسها فإننا مدعوون إلى التفاعل الإيجابي مع هذا الحكم وتنزيله في سياقه الحقوقي والقانوني والأخلاقي والحضاري دون مبالغة. إننا بداية أمام منظومة إقليمية لحقوق الإنسان والشعوب، هي الأفضل كونيا، وترتيبها يضاهي حسب العارفين المنظومة الأوروبية التي توجد فيها محكمة أوروبية لحقوق الإنسان هي مرجع للأفراد والجماعات والكيانات بمختلف خصائصها وتصنيفاتها

ولعل نقطة قوة المنظومة الإفريقية هي اهتمامها بحقوق الشعوب ـ خلافا للمنظومات الأخرى التي اهتمت بالأفراد  خصوصا وأنها منظومة رأت النور مطلع ثمانينات القرن الماضي عندما ظهر جليا أن موجة حصول الدول الإفريقية على استقلالها لم تكن كافية لإخراج الشعوب الإفريقية من البؤس والاستغلال المزدوج الداخلي والخارجي

وبعد سنوات طوال من جهود منظمات المجتمع المدني والخبراء وبفضل المواقف الايجابية لعديد الدول الإفريقية ومنها تونس كما أسلفنا، نشأت المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب بموجب المادة 1 من بروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن إنشاء محكمة أفريقية لحقوق الإنسان والشعوب الذي اعتمدته الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية آنذاك عام 1998 ودخل حيز النفاذ في 25 جانفي 2004 بعد مصادقة 32 دولة علما وأن 8 دول فقط اعترفت بخصائص تلقي القضايا مباشرة من المنظمات غير الحكومية والأفراد وهي: بوركينا فاسو، غامبيا، غانا ، غينيا بيساو، مالي، ملاوي، النيجر وتونس 

وفي هذا السياق بالذات نظرت المحكمة في عريضة المواطن التونسي المحامي إبراهيم بلغيث الذي أكد لوسائل الإعلام أن ما أقدم عليه لم يكن على خلفية سياسية أو بطلب من جهة سياسية. ليس ذلك فحسب يوجد ضمن قضاة المحكمة الـ 11 الذين تقترحهم دولهم، تونسي هو أستاذ القانون رافع بن عاشور الذي لا يحق له وفق نظام المحكمة المشاركة في معالجة الشكوى الخاصة ببلاده. مسألة ثانية جد هامة تتعلق بمضمون عريضة الشكوى ومضمون وتفاصيل الحكم والجدول الزمني وتعقيدات تنفيذه

إن العريضة تتعلق بوقائع أصبحت من الماضي، صحيح أن المحكمة جرّمتها لكنها أصبحت أمرا واقعا أفضى وأسس إجراءات أخرى تحولت بدورها إلى أمر واقع ومن ذلك تنظيم الاستشارة الالكترونية والاستفتاء وإصدار دستور جديد والشروع في تنفيذ انتخابات برلمانية جديدة وفق قانون انتخابي يكاد يكون جديدا علاوة على تغيير طبيعة وتركيبة مجلس القضاء وهيئة الانتخابات وغيره

كذلك الموقف الرسمي التونسي الذي لم يصدر بعد وقد يصدر لاحقا، ليس بالضرورة تصريحا ولكن قد يكون من خلال غض الطرف عما صدر عن المحكمة وحتى اتهامها بالتدخل في الشأن الداخلي وغيره من الإجابات التي تعودنا بها من ساكن قرطاج

الأهم في تقديرنا، هو عدم الهروب إلى الأمام وإهدار ما راكمته تونس رسميا ومدنيا في المشهد الإفريقي وفي الاتحاد الإفريقي وقبله منظمة الوحدة الإفريقية دون أن ننسى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب وقوى السلام الإفريقية وغيرها من نقاط الضوء التي كانت تونس سببا في توهجها في القارة السمراء. إن تغاضي تونس قد يدفع المحكمة إلى التوجه الى الاتحاد الافريقي الذي بمقدوره الذهاب في «نقاش» وحتى «عقوبات» لا تليق بتونس التي تقود شراكات القارة مع القوى النافذة في العالم وآخرها اليابان التي رتبت مؤتمرها مع الدول الإفريقية في بلادنا

ولا غرابة في حال الإصرار على تغذية كرة الثلج أن تصبح تونس على جدول اجتماعات حقوق الإنسان هنا وهناك في الوقت الذي بمقدورنا قطع الطريق أمام جميع الصائدين في الماء العكر والإنصات إلى أصوات العقل التي تردد باستمرار بأن الحل التونسي التونسي ما يزال ممكنا وخطوة إلى الوراء بعد خطوات أو بالأحرى قفزات نحو المجهول إلى الأمام، ستسمح بتصحيح حقيقي للتجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي قبل فوات الأوان

بقلم: مراد علالة