لست سعيّد ولا الغنوشي

جاء في سبر الآراء لهذا الشهر، حسب شركة « سيغما كوساي » وجريدة « المغرب »، أن نسبة انعدام الثقة في الشخصيات السياسية بلغت 82% لراشد الغنوشي و81% لنبيل القروي و75% لسيف الدين مخلوف. هذا الثلاثي الذي لا يثق فيه معظم الشعب التونسي هو الذي كان يحكم البلاد قبل 25 جويلية، وهو الذي كان مُسيطرا على البرلمان وعلى الحكومة، وكانت بيده إذن السلطتان التشريعية والتنفيذية، علاوة عن تأثيرهم، بأشكال مُلتوية، على السلطة القضائية وسلطة الإعلام. علما بأن قائد هذا الثلاثي هو دون شك شخص راشد الغنوشي. وما انعدام الثقة في الآخريْن إلا بسبب تبعيّتهما العمياء للقائد

لو كنت مكان الرئيس قيس سعيد، لأخذت هذه الأرقام مأخذ الجد. ولقمت بتحليلها والتمعّن فيها بالموضوعيّة اللازمة لفكّ رموزها واستنتاج معانيها

يتعلّق الأمر إذن بحجّة أخرى على أن الشعب التونسي يرفض رفضا باتّا ما قام به هذا الثلاثي على المستوييْن السياسي والاقتصادي، ما تسبّب في انهيار مُقوّمات الدولة. وما خروج الشعب التونسي إلى الشارع يوم 25 جويلية في النهار، عندما هاجم مقرّات حركة النهضة في كامل أنحاء البلاد، من شمالها إلى جنوبها، إلّا تنديدا به، وفي الليل، تعبيرا عن ابتهاجه بوضع حد لفوضى برلمان هذا الثلاثي ولحكومته

وهنا لا بدّ أن يعيَ السيد رئيس الجمهورية أن هذا « الابتهاج » هو تعبير عن الارتياح بنهاية هذا الكابوس، وأن المساندة الكبيرة التي لقيَها هي مساندة لفعل ابعاد الفاسدين أكثر من كونها مساندة شخصيّة. فالمريض الذي يُشفى من مرض خبيث يبتهج بشفائه أكثر من ابتهاجه لنجاح الجرّاح

مساندة الشخص كانت تكون عن جدارة كاملة لو أن الرئيس تابع الإجراءات التي كان ينتظرها هؤلاء الذين خرجوا للشارع ليلا تهليلا وتكبيرا. لكننا نرى أنه مرّت حوالي أربعة أشهر منذ ذلك التاريخ، ولم نرَ غلقا نهائيّا لقوس سلطة ما قبل 25 جويلية. فملفات اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي ما زالت في الرفوف، وملف تسفير شبابنا وبناتنا « للجهاد » ما زال مُغلقا، ووكر القرضاوي مازال مفتوحا، وملف الجهاز السري والأمن الموازي ما زال يُراوح مكانه… وفي كلمة، يمكن القول بأنه لم تتمّ محاسبة الجرائم السياسية التي اقترفها هذا الثالوث، والتي ليست أقلّها محاولة بيع تونس لمؤسسة قطرية اعتمادا على تصويت مُدلّس في البرلمان في منتصف ذات ليلة

يبدو أن رئيس الجمهورية لم يُعر الاهتمام اللازم للفساد السياسي، واتّجه بالخصوص إلى الفساد المالي. لكن هذا الملف، هو أيضا، لم يكن بالوضوح المُنتظر. وها نحن نشاهد محاسبة بعض المسؤولين السابقين على شبهات فساد، بعضها يُشبه التشفّي كما هو الشأن بالنسبة إلى سمير الطيّب، دون المساس بمن نهبوا حقيقة ما طاب لهم من خزينة الدولة. وأما مسألة « الصلح الجزائي » فتبقى اختيارا شخصيّا لم يقل فيه خبراء الاقتصاد كلمتهم

فلا عجب إذن أن نلاحظ تدنّي نسبة شعبيّة رئيس الدولة ب11 نقطة في شهر واحد، وأن نلاحظ الوضع النفسي الصعب الذي أصبح عليه الشعب، بسبب خيبات الأمل والإحباط وطول الانتظار وضبابية المشهد السياسي عموما، خاصّة بعد الوهم الذي أصاب العديد من المواطنين بأن الأموال ستتهاطل على الدولة وعليهم عند القصاص من الناهبين. ولا عجب أن ينتشر العنف لدى الشباب بشكل مُفزع في الآونة الأخيرة، وهو عنف إجرامي منبوذ لا محالة، ولكن البحث في أسبابه واجب مُؤكّد ومُلحّ

لو كنت مكان قيس سعيّد لقمت بهذه القراءة للأرقام المذكورة أعلاه

أما لو كنت مكان الغنوشي، لقمت بنقد ذاتي ومراجعة عميقة لكل ما اقترفته من أعمال ضد هذا الشعب وهذه البلاد. ولتساءلت عن عدد الأكاذيب التي نطقت بها للغدر بالشعب وعدد الوعود التي لم أفِ بها، سواء للنهضة أو للبرلمان أو للشعب. لو كنت مكانه، وقد فقدت الآن كل شيء، لعدلت على محاولة استعادة النفوذ الذي دخل طيّ التاريخ، ولقرّرت الكف عن محاولة استرجاع المكانة التي لم أكن يوما جديرا بها، والتي افتُكّت بالمال الفاسد. لو كنت مكان الغنوشي لطلبت المعذرة من حزبي ومن نواب المجلس ومن الشعب التونسي وخاصّة منه عائلات الشهداء. غير أنه لم يتّعظ بدروس التاريخ وها هو يُصرّ على أن تكون نهايته كنهاية كافة دكتاتوري العالم

لكنني لست مكان سعيّد ولا الغنوشي. ولست من باب أولى وأحرى مكان القروي أو مخلوف. كما أنني لا أتكلّم باسم أي حزب من الأحزاب، سواء من شارك منها في السلطة أو لم يُشارك، رغم قناعتي بأن الأحزاب التي لم تتواطأ مع الفساد السياسي ولا الفساد المالي في العشرية الماضية من حقّها أن ترمي بدلوها في عملية الإصلاح الشاملة. ومن مكاني في المجتمع المدني، من حقي ومن واجبي أن أقول بصوت عالٍ: لا يُمكن لهذه الضبابية أن تدوم أكثر ممّا دامت. وفي غياب « السياسيين »، على المجتمع المدني أن يضع برنامج إصلاح سياسي يقوم على مبادئ الدولة المدنية المتحضّرة وعلى المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وقيم الجمهورية، وبرنامج إصلاح اقتصادي يُوضع بمعيّة أصحاب الكفاءات العالية والتجارب الواسعة في المجال الاقتصادي والاجتماعي والمالي

منير الشرفي