لا تبحثوا عن المعلومة… فهي غير موجودة

غالبا ما يكون الصحافيون من أكثر الناس اطّلاعا على مجريات الأحداث، وحتى على خفاياها، وذلك لما يتمتّعون به عادة من علاقات مع مسؤولين بدرجات متفاوتة في السلطة

ومنذ أن انحصرت السلطة التونسية في قصر قرطاج، سكتت أبواق القصبة وباردو وكل ما تبعهما من مناطق النفوذ، واقتصرت مصادر الخبر على قصر قرطاج، بل على الكلمات التي يُلقيها رئيس الجمهورية أمام زائريه، لا غير. وفي غياب ناطق رسمي باسم رئاسة الجمهورية، وفي غياب خطابات مُوجّهة من الرئيس إلى الشعب التونسي، أصبح عامّة الناس يعتبرون الكلام المُوجّه إلى الضيف هو بمثابة الرسالة المُوجّهة إلى الشعب بأكمله. فأصبح الزائر، تونسيا كان أو أجنبيّا، وزيرا كان أو خبيرا أو مواطنا عاديا أو رياضيا، حمّالا لرسائل مُشفّرة إلى التونسيين والأجانب في آن واحد، وإلى كبار المسؤولين في الدولة وفي المعارضة والمواطنين البسطاء على حد السواء. فأصبح كلام الرئيس لزائره المصدر الوحيد للمعلومة في تونس، وتساوى كبار المسؤولين في حقل الإعلام مع أبسط المستهلكين للأخبار، ممّا أطلق العنان للإشاعات وللأخبار الزائفة، وأضحى الفايسبوك المصدر الرئيسي للخبر غير الرئاسي. فنرى الحكومات تتشكّل كل يوم على نحو مغاير لليوم الذي سبقه، ونرى خارطة طريق تُسند للرئيس وتتغيّر مرّتين في اليوم حسب ما يجود به خيال « المصادر المُطّلعة » التي ليس لديها ما تطّلع عليه أصلا

لنترك « المصادر المُطّلعة » والأخبار الخيالية والفايسبوك جانبا، ولنقتصر على ما ينطق به رئيس الجمهورية، المصدر الأوحد للسلطة وللخبر، في حديثه مع ضيوفه

أولا، ما زال خطاب الرئيس يتّسم بالغموض عند حديثه عن الأطراف السياسية، وما زال حريصا على عدم الإفصاح عمّن يحلو له تسميتهم ب « هُم ». حتى أن المتلقّي لم يعد يعرف إن كان هؤلاء « الهُم » يُمثلون طرفا واحدا أو أطرافا عديدة يتغيّرون حسب السياق. فهل أن « الهُم » المُتآمرين على شخصه هم نفس « الهُم » الناهبين لأموال الشعب، أم أنهم « هُم » آخرون؟ وهذا الغموض لا يزيد طبعا إلّا في التشويش عن المشهد السياسي العام في عيون الجميع، في الداخل وفي الخارج. وكل ما نعرفه في هذا المجال هو أن الرئيس أعلن الحرب عن فاسدين لا يعرفهم غيره، وأن البعض من هؤلاء الفاسدين في إقامة جبرية في محيط 60 كيلومترا ينتظرون مآلا لا نعرف عنه شيئا

ثانيا، وهذا هو الأهم، مازال الرئيس مًصرّا على عدم الإفصاح عن برنامجه في الفترة القادمة. فلا نحن نعرف في أي اتجاه سيسير شعبنا ولا متى ستنتهي هذه الفترة الانتقالية

صحيح أن وضع التونسيين كان في أتعس حال يوم 24 جويلية الماضي، وصحيح أنهم ابتهجوا لحل حكومة العار وتجميد برلمان الهانة، غير أن وضعهم الآن أشبه ما يكون بأولئك الذين كانوا تعساء بسبب انعدام الرفاهة في الكوخ الذي كانوا يسكنون فيه، فيأتي من يهدمه، ويُلقى بهم في الشارع ليبقوا بدون مأوى. والسؤال هنا أي الوضعيتين أفضل، السكنى السيّئة أم البقاء بدون مأوى؟

البقاء بدون مؤسسات أفضل دون شك من العودة إلى المؤسسات الرديئة، لكن بشرطين

الشرط الأول هو أن فترة الفراغ يجب حتما أن تكون قصيرة جدا، حتى لا ييأس الشعب من التحوّل الحقيقي ولا ينتابه الشك في الهدف الفعلي من إجراءات 25 جويلية. إذ أن دولة بدون مؤسسات سياديّة هي دولة يمكن أن تعصف بها الرياح كما تشاء، بما فيها الرياح التي يُمكن أن تُعيد 24 جويلية. ثمّ أن دولة بدون مؤسسات لا يُمكن أن تكون محل احترام من قبل الدول الأجنبية. والمبدأ القائل بأن الأجانب لا دخل لهم في شؤوننا الداخلية صحيح إلى حدّ ما، ولكنه ليس صحيحا في المطلق، إذ أنه لا يُمكن لأيّ دولة في العالم أن تعيش منغلقة على نفسها، مهما عظم شأنها. ونحن كدولة ضعيفة، مديونيتها ثقيلة جدا وخزينتها أفرغ من فؤاد أم موسى، لا يمكننا أن نتعالى عن المؤسسات المالية الدولية وعن الدول الصديقة التي نحن بحاجة ماسّة إليها والتي تنتظر عودة مؤسساتنا حتى تجد مُخاطبا رسميّا لها.
والشرط الثاني هو الاتجاه الذي سيأخذه المسار التصحيحي. أخبار عديدة، أحيانا متناقضة، تتكلّم عن إرادة في التغيير على مستويين اثنين

المستوى التشريعي مثل تعديل طفيف أو شامل في نص الدستور وفي نصوص بعض القوانين الأخرى مثل القانون الانتخابي وقانون الأحزاب والجمعيات
والمستوى القضائي المُتعلّق بمحاسبة مُرتكبي جرائم الفساد المالي

والواضح هو أنه لحد الآن، وبعد مرور قرابة الشهرين عن بداية المرحلة الانتقالية، لم تتّضح معالم مستوييْ المسار الجديد، لدرجة أن لهيب التأييد الذي لقيته إجراءات 25 جويلية أخذ ينطفئ، ليُعوّضه لهيب التعطّش إلى الأخبار والمعلومة الصحيحة والدقيقة، وإلى معرفة ما ينتظر الشعب في الأيام والأشهر القادمة

ويبقى المواطنون والإعلاميّون على نفس المسافة البعيدة من مصدر الخبر، في حال وجود خبر. وتبقى التخوّفات من الانتكاسة التي قد تأتي من عودة الفاسدين السياسيين بقوّة، ومن التراجع عن المكاسب التي تضمنها النصوص الدستورية والقانونية الحالية، رغم نقائصها

منير الشرفي