كورونا… شر البلية ما يضحك

يعلمنا تاريخ البشرية الإبداعي بأن المصائب تخلف أدباً للدموع والمآسي والخراب

الضحك فلسفة، هكذا رآه وقرأه وفسّره برغسون في كتابه « الضحك » الصادر عام 1900. الضحك طريق أيضاً لمقاومة الإحباط الإنساني، وهو في المحصّلة علامة للوعي الجماعي والفردي. فالمجتمعات التي تنمو فيها ثقافة النكتة هي مجتمعات نقدية بامتياز، النكتة إسمنت ثقافي للوعي

يعلّمنا تاريخ البشرية الإبداعي بأنّ المصائب تخلّف أدباً للدموع والمآسي والخراب ولكنها، وهذا منطق التاريخ أيضاً، تخلّف أدباً للضحك والسخرية من قدر الإنسان وعجزه، السخرية شكل من أشكال المقاومة السيكولوجية في لحظات مواجهة القلق والموت أو لحظات انتظارهما

وشر البليّة ما يضحك

إنّ قراءة لما ينتجه العقل الإنساني والعربي والمغاربي هذه الأيام، وهو يواجه جائحة كورونا التي تحاصره بأخبارها المحمّلة بآلاف الضحايا، ما ينتجه هذا العقل المبدع، ينبهنا إلى مسألة أساسية وهي أنّ الإنسان وهو يصارع موت الوباء الشامل تسقط فيه الطبقية، وتموت الأيديولوجيا، ويصعد شقاء البحث الإنساني عن الخلاص

يتحدث الواحد في إيطاليا أو كوريا الجنوبية أو الصين أو الجزائر أو مصر أو الولايات المتحدة أو في جنوب أفريقيا… كلّ الأحاديث متشابهة، كلّها تبحث عن الخلاص، كلّها تبحث عن مواجهة الوباء.

وشر البليّة ما يضحك

مئات، بل آلاف النكات والطرائف تنتقل على شبكات التواصل الاجتماعي، عابرة اللغات والثقافات والديانات من دون اعتبار، متخطّية الجغرافيات، ساخنة كانت أو باردة، شمالية أو جنوبية، وفي مرورها هذا تُستقبل النكتة بكثير من التعليقات والتجاوب والضحك المنقذ من دون عنصرية دينية أو عرقية أو ثقافية أو لونية

مئات، بل آلاف النكات في جميع مناحي الحياة اليومية، في السياسة والجنس والمرأة والذكورة والخوف والهوس والأكل والشرب والزينة والزنا والقراءة والحيوانات تعبر وسائل التواصل الاجتماعي من أقصى الأرض إلى أقصاها

ومن خلال نظرة متفّحصة لهذا السيل من النكات، نستنتج بدءاً بأن النكات المتعلقة بالجنس هي الأكثر حضوراً، لأنّ الجنس يظل حاجة إنسانية لا تحتاج إلى لغة، وهو علاقة حميمة جسدية وعاطفية مشتركة بين الجميع، لذا التفاعل معها يكون قوياً ومباشراً وعامّاً. النكتة الجنسية هي العابرة بقوة لكل الحدود الثقافية والعقائدية واللغوية

وتأتي بعدها تلك النكت المرتبطة بمسألة توزيع الفضاء البيتي، فهذا الفضاء الذي كان أنثوياً بامتياز، بمطبخه خصوصاً، بات جراء الحجر منتهكاً ومخترقاً من قبل الذكورة، ذكورية المطبخ، ويذهب عددٌ كبيرٌ من النكت إلى توصيف هذه الحدود التي وزّعت جغرافية البيت كما وزّعت جغرافية الفضاء العام في الخارج، منطقة للنساء وأخرى للرجال

وتحيلنا هذه السلسلة من النكت، في الوقت ذاته، وبشكل عفوي على فلسفة توزيع العمل في البيت، توزيع الأدوار ما بين العبد والسيد، إذ يكشف لنا الحجر الصحي هذا كيف أنّ المرأة وهي في البيت، مهما كان مقامها في الخارج، تعود إلى عمل السخرة، الغسيل والطبخ والتنظيف، ما يجعل المراقب لمثل هذه النكات يكتشف الممارسات غير الإنسانية في توزيع العمل في البيت والتي يقع كاهلها وثقلها أساساً على المرأة، وهذا الحجر الصحي يكشف أنّ هذا التوزيع غير العادل لا يزال قائماً في زمننا المعاصر، فالمرأة لا تزال تتحمّل الأكثر

وتأتي في المرتبة الثالثة النكات المرتبطة بالتدين. ويكشف لنا عددٌ كبيرٌ من النكت التي تنتجها المجتمعات التي تعاني من سلطة قوى الدين السياسي، وبعبقرية شعبية تُصاغ النكتة بأسلوب ساخر وذكي لتعرية فئة من الدعاة الذين لطالما صاحوا على كل السطوح وعلى كل شاشات التلفزيونات بأنهم قادرون على رد البلاء عن « المسلمين، وعن المسلمين وحدهم »، بقراءة آية من القرآن أو حديث أو دعاء، فإذا هم اليوم يختفون في انتظار مرور العاصفة ليعودوا ربما إلى خطاباتهم وخطبهم القديمة

وفي المقام الرابع، تشرِّح النكت المرتبطة بكورونا وبالحجر الصحي، وضعية الواقع الصحي المزري لبعض البلدان التي لطالما تشدّقت بأمنها الصحي وتفوّق منظومتها الصحية، ويتم عرض هذه الحال من خلال بعض الألبسة الصحية الغريبة والكمّامات العجيبة التي تركب على شخصيات سياسية أو علمية أو دينية، وتصور الخوف المبالغ فيه، الذي يصل حد الهلع، في التعامل مع الآخر والتعامل مع فعل النظافة

ومن الناحية العاطفية، وبسخرية عالية أيضاً، وفي ظل الحجر الصحي، ومن خلال سيل من النكت، تتمّ تعرية العلاقة الزوجية المعاصرة، ومدى صلابتها أمام قدرة الفرد على تحمل الزوج الثاني على مدار الساعة وعلى مدار اليوم والأسبوع والأسابيع… وبسخرية أيضاً، ترسم نكت الحجر الصحي مسألة الوفاء العاطفي والجسدي بين الزوجين

وبسخرية أيضاً، يعرّي فن النكتة علاقة المرأة بالمرآة والاهتمام بجمالها ولياقتها الجسدية في ظل حجر مفتوح على كل الاحتمالات. وفي ذلك إشارة نقدية إلى الشركات العالمية المتخصصة في أدوات التجميل التي يهدّد اقتصادها الحجر الصحي، ومرات كثيرة تكون مثل هذه النكات المرتبطة بجمال المرأة في الحجر مشحونة بحس ذكوري متخلّف يستصغر عملية الاهتمام بالجمال وباللياقة البدينة

وشر البليّة ما يضحك

مع هذا الحجر الصحي وفي ظله ولمحاربة فوبيا الوباء والإحباط النفسي والهوس المرضي الذي أضحى يعاني منه كثيرون، تشكّلت نوادٍ كثيرة ومجموعات وحلقات مختلفة مكوّنة من آلاف المنخرطين من بلدان مختلفة وثقافات مختلفة وديانات مختلفة، مهمتها تبادل فيديوهات النكت الخاصة بيوميّات الحجر وبحياة المواطنين في مثل هذه الظروف الصعبة. وبالفعل، تحوّلت هذه المجموعات إلى قوة ضد سيكولوجية الهزيمة

إنّ قراءة سوسيو- سياسية وسيكو- ثقافية للإنتاج الثقافي والفني المتداول بين المجموعات والمواقع والأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي والمرتبطة بالحجر الصحي ووباء كورونا في شكل فن النكتة، سواء على شكل فيديو أو بالتعبير النصي اللغوي أو الكاريكاتير أو الصور الفوتوغرافية، يتضح لنا جلياً، أن هذا الإنتاج الإعلامي الفني والثقافي، يرسم لنا صورة حقيقية عن درجة الوعي الجمعي والفردي على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي والديني الذي وصلت إليه مجتمعاتنا، وهو إنتاج تمكّن من تقريب الشعوب في ما بينها على اختلاف عقائدها وسياسات أنظمتها ولغاتها لتشكّل « النكتة » الجماعية سلاحاً في وجه الخوف، وهو أيضاً لحظة مراجعة لسلوكات بائدة عدّة في العلاقة مع المرأة ومع فضائل البيت وتوزيع العمل ومع الدين والتديّن ومع الصداقة ومع المؤسسة ومع الأطفال

شر البليّة ما يضحك، والمصيبة « إذا عمّت خفّت »، لأنّ مقاومتها تكون عامة وشاملة والنجاح مأمول

أمين الزاوي